وأما فذلك سر من أسرار الله تعالى لم نصفه ولا رخصة في وصفه إلا بأن يقال هو أمر رباني كما قال تعالى : الروح التي هي الأصل وهي التي إذا فسدت فسد لها سائر البدن " قل الروح من أمر ربي "، والأمور الربانية لا تحتمل العقول وصفها بل تتحير فيها عقول أكثر الخلق ، وأما الأوهام والخيالات فقاصرة عنها بالضرورة قصور البصر عن إدراك الأصوات وتتزلزل في ذكر مبادئ وصفها معاقد العقول المقيدة بالجوهر والعرض المحبوسة في مضيقها ، فلا يدرك بالعقل شيء من وصفه بل بنور آخر أعلى وأشرف من العقل يشرق ذلك النور في عالم النبوة والولاية نسبته إلى العقل نسبة العقل إلى الوهم والخيال ، وقد خلق الله تعالى الخلق أطوارا فكما يدرك الصبي المحسوسات ، ولا يدرك المعقولات ؛ لأن ذلك طور لم يبلغه بعد ، فكذلك يدرك البالغ المعقولات ولا يدرك ما وراءها لأن ذلك طور لم يبلغه بعد ، وإنه لمقام شريف ومشرب عذب ورتبة عالية ، فيها يلحظ جناب الحق بنور الإيمان واليقين وذلك المشرب أعز من أن يكون شريعة لكل وارد ، بل لا يطلع عليه إلا واحد بعد واحد ولجناب الحق صدر ، وفي مقدمة الصدر مجال وميدان رحب : وعلى أول الميدان عتبة هي مستقر ذلك الأمر الرباني ، فمن لم يكن له على هذه العتبة جواز ولا لحافظ العتبة مشاهدة واستحال أن يصل الميدان فكيف بالانتهاء إلى ما وراءه من المشاهدات العالية ؛ ولذلك قيل : من لم يعرف نفسه لم يعرف ربه وأنى يصادف هذا خزانة الأطباء ، ومن أين للطبيب أن يلاحظه بل المعنى المسمى روحا عند الطبيب ، بالإضافة إلى هذا الأمر الرباني كالكرة التي يحركها صولجان الملك ، بالإضافة إلى الملك ، فمن عرف الروح الطبي فظن أنه أدرك الأمر الرباني كان كمن رأى الكرة التي يحركها صولجان الملك ؛ فظن أنه رأى الملك ، ولا يشك في أن خطأه فاحش ، وهذا الخطأ أفحش منه جدا ، ولما كانت العقول التي بها يحصل التكليف ، وبها تدرك مصالح الدنيا ، عقولا قاصرة عن ملاحظة كنه هذا الأمر لم يأذن الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يتحدث عنه بل أمره أن ولم يذكر الله تعالى في كتابه من حقيقة هذا الأمر شيئا ولكن ذكر نسبته وفعله ، ولم يذكر ذاته ، أما نسبته ؛ ففي قوله تعالى : من أمر ربي "، وأما فعله فقد ذكر في قوله تعالى يكلم الناس على قدر عقولهم يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي ولنرجع الآن إلى الغرض فإن المقصود ذكر نعم الله تعالى في الأكل ، فقد ذكرنا بعض نعم الله تعالى في آلات الأكل .