فهذه ثلاثة من النعم خاصة يعترف بها كل عبد إما مطلقا ، وإما في بعض الأمور ، فلننزل عن هذه الطبقة إلى طبقة أخرى أعم منها قليلا ، فنقول : ما من عبد إلا وقد رزقه الله تعالى في صورته أو شخصه أو أخلاقه أو صفاته أو أهله أو ولده أو مسكنه أو بلده أو رفيقه أو أقاربه أو عزه أو جاهه أو في سائر محابه أمورا
لو سلب ذلك منه ، وأعطي ما خصص به غيره ، لكان لا يرضى به ، وذلك مثل أن جعله مؤمنا لا كافرا ، وحيا لا جمادا ، وإنسانا لا بهيمة ، وذكرا لا أنثى ، وصحيحا لا مريضا ، وسليما لا معيبا ، فإن كل هذه خصائص ، وإن كان فيها عموم أيضا ، فإن هذه الأحوال لو بدلت بأضدادها لم يرض بها بل له أمور لا يبدلها بأحوال الآدميين أيضا ، وذلك إما أن يكون بحيث لا يبدله بما خص به أحد من الخلق أو لا يبدله بما خص به الأكثر ، فإذا كان لا يبدل حال نفسه بحال غيره فإذا حاله أحسن من حال غيره ، وإذا كان لا يعرف شخص يرتضي لنفسه حالة بدلا عن حال نفسه إما على الجملة وإما في أمر خاص ، وإن كان يبدل حال نفسه بحال بعضهم دون البعض فلينظر إلى عدد المغبوطين عنده ، فإنه لا محالة يراهم أقل ، بالإضافة إلى غيرهم ، فيكون من دونه في الحال أكثر بكثير مما هو فوقه ، فما باله ينظر إلى من فوقه ليزدري : نعم الله تعالى على نفسه ، ولا ينظر إلى من دونه ليستعظم نعم الله عليه ، وما باله لا يسوي دنياه بدينه أليس إذا لامته نفسه على سيئة يقارفها يعتذر إليها بأن في الفساق كثرة ، فينظر أبدا في الدين إلى من دونه لا إلى من فوقه ، فلم لا يكون نظره في الدنيا كذلك ؟! فإذا كان حال أكثر الخلق في الدين خيرا منه ، وحاله في الدنيا خير من حال أكثر الخلق فكيف لا يلزمه الشكر ؟! فإذا لله عليه نعم ليست له على أحد من عباده سواه ،
ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : من نظر في الدنيا إلى من هو دونه ، ونظر في الدين إلى من هو فوقه ، كتبه الله صابرا وشاكرا ، ومن نظر في الدنيا إلى من هو فوقه ، وفي الدين إلى من هو دونه ، لم يكتبه الله صابرا ولا شاكرا
.