الركن الثالث من كتاب الصبر والشكر
فيما يشترك فيه الصبر والشكر ويرتبط أحدهما بالآخر
بيان وجه اجتماع الصبر والشكر على شيء واحد
لعلك تقول ما ذكرته في النعم إشارة إلى وهذا يشير إلى أن البلاء لا وجود له أصلا ، فما معنى الصبر ؟ إذا ؟ وإن كان البلاء موجودا فما معنى أن لله تعالى في كل موجود نعمة ، وقد ادعى مدعون أنا نشكر على البلاء فضلا عن الشكر على النعمة ، فكيف يتصور الشكر على البلاء ؟ وكيف يشكر على ما يصبر عليه والصبر على البلاء يستدعي ألما والشكر يستدعي فرحا وهما يتضادان ؟ وما معنى ما ذكرتموه من أن لله تعالى في كل ما أوجده نعمة على عباده ؟! فاعلم أن البلاء موجود ، كما أن النعمة موجودة ، والقول بإثبات النعمة يوجب القول بإثبات البلاء ، لأنهما متضادان ، ففقد البلاء نعمة ، وفقد النعمة بلاء ، ولكن قد سبق أن النعمة تنقسم إلى نعمة مطلقة من كل وجه ، أما في الآخرة فكسعادة العبد بالنزول في جوار الله تعالى ، وأما في الدنيا فكالإيمان وحسن الخلق ، وما يعين عليهما ، وإلى نعمة مقيدة من وجه دون وجه ، كالمال الذي يصلح الدين من وجه ، ويفسده من وجه فكذلك البلاء ينقسم إلى مطلق ، ومقيد ، أما المطلق في الآخرة فالبعد من الله تعالى ، إما مدة وإما أبدا ، الشكر على البلاء ؟
وأما في الدنيا فالكفر والمعصية وسوء الخلق ، وهي التي تفضي إلى البلاء المطلق .
وأما المقيد فكالفقر ، والمرض ، والخوف ، وسائر أنواع البلاء التي لا تكون بلاء في الدين بل في الدنيا ، فالشكر المطلق للنعمة المطلقة ، وأما البلاء المطلق في الدنيا فقد لا يؤمر بالصبر عليه لأن الكفر بلاء ، ولا معنى للصبر عليه ، وكذا المعصية ، بل حق الكافر أن يترك كفره ، وكذا حق العاصي ، نعم الكافر قد لا يعرف أنه كافر فيكون كمن به علة وهو لا يتألم بسبب غشية أو غيرها فلا صبر ، عليها والعاصي يعرف أنه عاص فعليه ترك المعصية ، بل كل بلاء يقدر الإنسان على دفعه فلا يؤمر بالصبر عليه ، فلو ترك الإنسان الماء مع طول العطش حتى عظم تألمه فلا يؤمر بالصبر عليه ، بل يؤمر بإزالة الألم ، وإنما الصبر على ألم ليس إلى العبد إزالته . فإذا يرجع الصبر في الدنيا إلى ما ليس ببلاء مطلق ، بل يجوز أن يكون نعمة من وجه ، فلذلك يتصور أن يجتمع عليه وظيفة الصبر والشكر ،
فإن الغنى مثلا يجوز أن يكون سببا لهلاك الإنسان حتى يقصد بسبب ماله فيقتل وتقتل أولاده والصحة أيضا كذلك ، فما من نعمة من هذه النعم الدنيوية إلا ويجوز أن تصير بلاء ، ولكن بالإضافة إليه فكذلك ما من بلاء إلا ويجوز أن يصير نعمة ، ولكن بالإضافة إلى حالة فرب عبد تكون الخيرة له في الفقر والمرض ، ولو صح بدنه ، وكثر ماله لبطر وبغى قال الله تعالى : ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض وقال تعالى : كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى وقال صلى الله عليه وسلم : إن الله ليحمي عبده المؤمن من الدنيا ، وهو يحبه ، كما يحمي أحدكم مريضه .