الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وعن أبي الدرداء قال : توفي ابن لسليمان بن داود عليهما السلام ، فوجد عليه وجدا شديدا ، فأتاه ملكان فجثيا بين يديه في زي الخصوم ، فقال أحدهما : بذرت بذرا فلما استحصد : مر به هذا فأفسده ، فقال للآخر : ما تقول ؟ فقال : أخذت الجادة : فأتيت على زرع فنظرت يمينا وشمالا ، فإذا الطريق عليه . فقال سليمان عليه السلام ولم بذرت على الطريق ؟ أما علمت أن لا بد للناس من الطريق ؟ قال فلم تحزن على ولدك ؟ أما علمت أن الموت سبيل الآخرة فتاب سليمان إلى ربه ولم يجزع على ولد بعد ذلك .

ودخل عمر بن عبد العزيز على ابن له مريض فقال يا بني لأن تكون في ميزاني أحب إلي من أن أكون في ميزانك ، فقال : يا أبت لأن يكون ما تحب أحب إلي من أن يكون ما أحب

وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه نعي إليه ابنة له : فاسترجع : وقال : عورة سترها الله تعالى ومؤنة كفاها الله وأجر قد ساقه الله تعالى ثم نزل فصلى ركعتين ثم قال : قد صنعنا ما أمر الله تعالى قال تعالى واستعينوا بالصبر والصلاة

وعن ابن المبارك أنه مات له ابن فعزاه مجوسي يعرفه ، فقال له : ينبغي للعاقل أن يفعل اليوم ما يفعله الجاهل بعد خمسة أيام فقال ابن المبارك اكتبوا عنه هذه

وقال بعض العلماء : إن الله ليبتلي العبد بالبلاء بعد البلاء حتى يمشي على الأرض وما له ذنب

وقال الفضيل إن الله عز وجل ليتعاهد عبده المؤمن بالبلاء كما يتعاهد الرجل أهله بالخير

وقال حاتم الأصم إن الله عز وجل يحتج يوم القيامة على الخلق بأربعة أنفس على أربعة أجناس : على الأغنياء بسليمان وعلى الفقراء بالمسيح وعلى العبيد : بيوسف وعلى المرضى بأيوب صلوات الله عليهم

وروي أن زكريا عليه السلام لما هرب من الكفار من بني إسرائيل واختفى في الشجرة فعرفوا ذلك فجيء بالمنشار فنشرت الشجرة حتى بلغ المنشار إلى رأس زكريا فأن منه أنة : فأوحى الله تعالى إليه يا زكريا لئن صعدت منك أنة ثانية لأمحونك من ديوان النبوة ، فعض زكريا عليه السلام على إصبعه حتى قطع شطرين

وقال أبو مسعود البلخي من أصيب بمصيبة فمزق ثوبا أو ضرب صدرا فكأنما أخذ رمحا يريد أن يقاتل به ربه عز وجل

وقال لقمان رحمه الله لابنه : يا بني إن الذهب يجرب بالنار ، والعبد الصالح يجرب بالبلاء ، فإذا أحب الله قوما ابتلاهم ، فمن رضي فله الرضا ، ومن سخط فله السخط

وقال الأحنف بن قيس أصبحت يوما أشتكي ضرسي ، فقلت لعمي ما نمت البارحة من وجع الضرس حتى قلعتها ثلاثا ، فقال : لقد أكثرت من ضرسك في ليلة واحدة ، وقد ذهبت عيني هذه منذ ثلاثين سنة ما علم بها أحد وأوحى الله تعالى إلى عزير عليه السلام إذا نزلت بك بلية فلا تشكني إلى خلقي ، واشك إلي كما لا أشكوك إلى ملائكتي إذا صعدت مساويك وفضائحك نسأل الله من عظيم لطفه وكرمه ستره الجميل في الدنيا والآخرة

.

التالي السابق


(وعن أبي الدرداء) رضي الله عنه (قال: توفي ابن لسليمان بن داوود عليهما السلام، فوجد عليه وجدا شديدا، فأتياه ملكان فجثيا بين يديه في زي الخصوم، فقال أحدهما: بذرت بذرا فلما استحصد) أي: حان أن يحصد (مر به هذا فأفسده، فقال سليمان للآخر: ما تقول؟ فقال: أخذت الجادة) أي: شارع الطريق الذي يسلكه الناس (فأتيت على زرع فنظرت يمينا وشمالا، فإذا الطريق عليه. فقال سليمان عليه السلام) للرجل المدعي: (ولم بذرت على الطريق؟ أما علمت أن لابد للناس من الطريق؟ قال) الرجل: (فلم تحزن على ولدك؟ أما علمت أن الموت سبيل الآخرة) لابد للناس من المرور عليها (فتاب سليمان) عليه السلام (إلى ربه) لما نبهه على ذلك (ولم يجزع على ولد بعد ذلك. ودخل عمر بن عبد العزيز) الأموي رحمه الله تعالى (على ابن له مريض) قيل: هو عبد الملك (فقال) له: (يا بني لأن تكون في ميزاني أحب إلي من أن أكون في ميزانك، فقال: يا أبت لأن يكون ما تحب أحب إلي من أن يكون ما أحب) . أخرجه أبو نعيم في الحلية .

(و) يروى (عن ابن عباس) رضي الله عنه (أنه نعي إليه ابنة له) أي: أخبر بموتها (فاسترجع) أي: قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، وصبر (وقال: عورة سترها الله) تعالى (ومؤنة كفاها الله) تعالى (وأجر ساقه الله) تعالى (ثم نزل) عن سريره (فصلى ركعتين ثم قال: قد صنعنا ما أمر الله) تعالى، قال الله تعالى: واستعينوا بالصبر والصلاة . (و) يحكى (عن ابن المبارك) عبد الله رحمه الله تعالى (أنه مات ابن له فعزاه مجوسي يعرفه، فقال له: ينبغي للعاقل أن يفعل اليوم ما يفعله الجاهل بعد خمسة أيام) يعني الصبر (فقال ابن المبارك) لأصحابه (اكتبوا عنه هذه) القولة؛ أي فإنها من الحكم. (وقال بعض العلماء: إن الله عز وجل ليبتلي العبد بالبلاء حتى يمشي على الأرض وما له ذنب) ومضى هذا في الحديث المرفوع، روى الطبراني من رواية محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه رفعه: إن الله يبتلي عبده بالسقم حتى يكفر عنه كل ذنب، وروى الحاكم وتمام وابن عساكر من حديث أبي هريرة: إن الله ليبتلي عبده المؤمن بالسقم حتى يخفق يكفر ذلك عنه كل ذنب. (وقال الفضيل) بن عياض رحمه الله تعالى: (إن الله عز وجل ليتعاهد عبده المؤمن بالبلاء كما يتعاهد الرجل أهله بالخير) وقد روي نحو ذلك في المرفوع، روى الروياني وأبو الشيخ والحسن بن سفيان وابن عساكر وابن النجار من حديث حذيفة: إن الله ليتعاهد عبده المؤمن بالبلاء، كما يتعاهد الوالد ولده بالخير، الحديث .

(وقال حاتم الأصم) رحمه الله تعالى: (إن الله عز وجل يحتج يوم القيامة على الخلق بأربعة أنفس على أربعة أجناس: على الأغنياء بسليمان)بن داوود (وعلى الفقراء بالمسيح) عيسى ابن مريم (وعلى العبيد) أي: الأرقاء (بيوسف) بن يعقوب (وعلى المرضى بأيوب صلوات الله عليهم) أجمعين. (وروي أن زكريا عليه السلام لما هرب من الكفار من بني إسرائيل) لما أحس منهم الشر (واختفى في الشجرة) فإنها انشقت بنصفين فدخل في بطنها ثم التأمت (فعرفوا ذلك) ، وذلك أن إبليس أمسك طرفا من ثوبه فبقي بارزا، فلما جاء بنو إسرائيل يفتشون عليه فأخبرهم أنه في بطن الشجرة فلم يصدقوه فأراهم طرف ثوبه فعرفوه (فجيء بالمنشار فنشرت الشجرة حتى بلغ المنشار إلى رأس زكريا) عليه السلام (فأن منه أنة) أي: من ألم ما لقي من المنشار (فأوحى الله تعالى إليه) أن (يا زكريا لئن صعدت منك أنة ثانية لأمحونك من ديوان النبوة، فعض زكريا عليه السلام على الصبر حتى قطع بشطرين) ولم يئن. ويقال إنه كان يذكر حين وصل المنشار إلى حلقه الشريف فما زال يذكر من [ ص: 147 ] خلقه حتى نشر، وسموا هذا الذكر ذكر المنشار، وهو من أذكار أتباع القطب بابا أحمد الميسوي قدس سره .

(وقال أبو مسعود البلخي) رحمه الله تعالى (من أصيب بمصيبة فمزق ثوبا أو ضرب صدرا فكأنما أخذ رمحا يريد أن يقاتل به ربه عز وجل) . هكذا في النسخ، وأبو مسعود هذا لم أعرف من حاله شيئا، وفي بعض النسخ ابن مسعود فليحرر. (وقال لقمان) رحمه الله تعالى (لابنه: يا بني إن الذهب يجرب بالنار، والعبد الصالح يجرب بالبلاء، وإذا أحب الله قوما ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط) . يستأنس للشطر الأول بما رواه الطبراني والحاكم من حديث أبي أمامة: "إن الله ليجرب أحدكم بالبلاء، وهو أعلم به، كما يجرب أحدكم ذهبه بالنار، فمنهم من يخرج كالذهب الإبريز، فذاك الذي حماه الله من الشبهات، ومنهم من يخرج كالذهب دون ذلك فذاك الذي يشك بعض الشك، ومنهم من يخرج كالذهب الأسود فذاك الذي قد افتتن". قال الحاكم: صحيح، وقد تعقب بعفير بن معدان، وهو ضعيف. وأما الشطر الثاني فقد رواه الطبراني في الأوسط، والبيهقي والضياء من حديث أنس: "إذا أحب الله قوما ابتلاهم". ورواه أحمد في الزهد عن وهب بن منبه مرسلا، وروى أحمد والبيهقي من حديث محمود بن لبيد: "إذا أحب الله قوما ابتلاهم، فمن صبر فله الصبر، ومن جزع فله الجزع".

(وقال) أبو بحر (الأحنف بن قيس) بن معاوية التميمي السعدي البصري، وكان أحنف الرجلين جميعا، واسمه صخر، ثقة، مأمون، قليل الحديث (أصبحت يوما أشتكي ضرسي، فقلت لعمي) صعصعة بن معاوية بن حصين التميمي له صحبة (ما نمت البارحة من وجع الضرس حتى قلتها ثلاثا، فقال: أكثرت من ضرسك في ليلة واحدة، وقد ذهبت عيني هذه منذ ثلاثين سنة ما علم بها أحد) . قال الزبير بن بكار: حدثني محمد بن سلام عن الأحنف بن قيس أنه قال لأصحابه: "أتعجبون من حلمي وخلقي، وإنما هذا شيء استفدته من عمي صعصعة بن معاوية، شكوت إليه وجعا في بطني فأسكتني مرتين، ثم قال لي: يا ابن أخي لا تشك الذي نزل بك إلى أحد فإن الناس رجلان إما صديق فيسوءه، وإما عدو فيسره، ولكن اشك الذي نزل بك إلى الذي ابتلاك، ولا تشك قط إلى مخلوق مثلك لا يستطيع أن يدفع عن نفسه مثل الذي نزل بك، يا ابن أخي إن لي عشرين سنة لا أرى بعيني هذه سهلا ولا جبلا فما شكوت ذلك لزوجتي ولا غيرها" اهـ. وروى المزي في تهذيب الكمال عن الأحنف قال: "ذهبت عيني منذ أربعين سنة ما شكوتها لأحد" .

(وأوحى الله إلى عزير عليه السلام) : يا عزير (إذا نزلت بك بلية فلا تشكني إلى خلقي، كما لا أشكوك إلى ملائكتي إذا صعدت بمساويك وفضائحك) . رواه الديلمي من حديث أبي هريرة بلفظ: "أوحى الله تعالى إلى أخي العزير: إن أصابتك مصيبة فلا تشكني إلى خلقي، فقد أصابني منك مصائب كثيرة ولم أشكك إلى ملائكتي، يا عزير اعصني بقدر طاقتك على عذابي، وسلني حوائجك على مقدار عملك لي، ولا تأمن مكري حتى تدخل جنتي. فاهتز عزير يبكي فأوحى الله تعالى إليه: لا تبك يا عزير، فإن عصيتني بجهلك غفرت لك بحلمي لأني كريم لا أعجل بالعقوبة على عبادي وأنا أرحم الراحمين".




الخدمات العلمية