ثم واحتراق القلب ، ثم يفيض أثر الحرقة من القلب على البدن وعلى ، الجوارح ، وعلى الصفات ، إذا كملت المعرفة أورثت جلال الخوف ،
أما في البدن فبالنحول والصفار والغشية والزعقة والبكاء ، وقد تنشق به المرارة فيفضى إلى الموت أو يصعد إلى الدماغ فيفسد العقل أو يقوى فيورث القنوط واليأس ،
وأما في الجوارح فبكفها عن المعاصي ، وتقييدها بالطاعات تلافيا : لما فرط واستعدادا للمستقبل ؛ ولذلك قيل : ليس الخائف من يبكي ويمسح عينيه بل من يترك ما يخاف أن يعاقب عليه : وقال أبو القاسم الحكيم : من خاف شيئا هرب منه ، ومن خاف الله هرب إليه
وقيل لذي النون متى يكون العبد خائفا ؟ قال : إذا نزل نفسه منزلة السقيم الذي يحتمي مخافة طول السقام :
وأما في الصفات فبأن يقمع الشهوات ، ويكدر اللذات ، فتصير المعاصي المحبوبة عنده مكروهة ، كما يصير العسل مكروها عند من يشتهيه إذا عرف أن فيه سما فتحترق الشهوات بالخوف وتتأدب الجوارح ، ويحصل في القلب الذبول ، والخشوع ، والذلة ، والاستكانة ، ويفارقه الكبر ، والحقد والحسد ، بل يصير مستوعب الهم بخوفه ، والنظر في خطر عاقبته ، فلا يتفرغ لغيره ، ولا يكون له شغل إلا المراقبة ، والمحاسبة ، والمجاهدة والضنة بالأنفاس واللحظات : مؤاخذة النفس بالخطرات والخطوات ، والكلمات ويكون حاله حال من وقع في مخالب سبع ضار لا يدري أنه يغفل عنه فيفلت : أو يهجم عليه فيهلك ، فيكون ظاهره وباطنه مشغولا بما هو خائف منه ، لا متسع فيه لغيره . هذا حال من غلبه الخوف ، واستولى عليه ، وهكذا كان حال جماعة من الصحابة والتابعين وقوة المراقبة ، والمحاسبة ، والمجاهدة ، بحسب قوة الخوف الذي هو تألم القلب ، واحتراقه وقوة الخوف بحسب قوة المعرفة بجلال الله وصفاته وأفعاله وبعيوب النفس ، وما بين يديها من الأخطار والأهوال وأقل درجات الخوف مما يظهر أثره في الأعمال أن يمنع عن المحظورات ويسمى الكف الحاصل عن المحظورات ورعا فإن زادت قوته كف عما يتطرق إليه إمكان التحريم ، فيكف أيضا عما لا يتيقن تحريمه ، ويسمى ذلك تقوى إذ وقد يحمله على أن يترك ما لا بأس به مخافة ما به بأس ، وهو الصدق في التقوى ، فإذا انضم إليه التجرد للخدمة فصار لا يبني ما لا يسكنه ، ولا يجمع ما لا يأكله ، ولا يلتفت إلى دنيا يعلم أنها تفارقه ، ولا يصرف إلى غير الله تعالى نفسا من أنفاسه ، فهو الصدق ، وصاحبه جدير بأن يسمى صديقا ويدخل في الصدق التقوى ، ويدخل في التقوى الورع ، ويدخل في الورع العفة فإنها عبارة عن الامتناع عن مقتضى الشهوات خاصة . فإذا الخوف يؤثر في الجوارح بالكف والإقدام ، ويتجدد له بسبب الكف اسم العفة ، وهو كف عن مقتضى الشهوة ، وأعلى منه الورع فإنه أعم لأنه كف عن كل محظور ، وأعلى منه التقوى فإنه اسم للكف عن المحظور والشبهة جميعا ، ووراءه اسم الصديق والمقرب ، وتجري الرتبة الآخرة مما قبلها مجرى الأخص من الأعم ، فإذا ذكرت الأخص فقد ذكرت الكل كما أنك تقول الإنسان إما عربي ، وإما عجمي ، والعربي إما قرشي أو غيره ، والقرشي إما هاشمي أو غيره ، والهاشمي إما علوي أو غيره ، والعلوي إما حسني أو حسيني . فإذا ذكرت أنه حسني مثلا فقد وصفته بالجميع ، وإن وصفته بأنه علوي وصفته بما هو فوقه مما هو أعم منه فكذلك إذا قلت : صديق ، فقد قلت : إنه تقي ، وورع ، وعفيف التقوى أن يترك ما يريبه إلى ما لا يريبه ،
فلا ينبغي أن تظن أن كثرة هذه الأسامي تدل على معان كثيرة متباينة ، فيختلط عليك كما اختلط على من طلب المعاني من الألفاظ ، ولم يتبع الألفاظ ، المعاني فهذه إشارة إلى مجامع معاني الخوف ، وما يكتنفه من ، جانب العلو كالمعرفة الموجبة له ، ومن جانب السفل كالأعمال الصادرة منه ، كفا وإقداما
.