وهذا كانقسام الخائفين إلى من يخاف معصيته وجنايته ، وإلى وأوصافه التي تقتضي الهيبة لا محالة ، فهذا أعلى رتبة ؛ ولذلك يبقى خوفه وإن كان في طاعة الصديقين . وأما الآخر فهو في عرصة الغرور والأمن من يخاف الله تعالى نفسه لصفته وجلاله
إن واظب على الطاعات ، وهو ثمرة المعرفة بالله تعالى ، وكل من عرفه وعرف صفاته علم من صفاته ما هو جدير بأن يخاف من غير جناية ، بل العاصي لو عرف الله حق المعرفة لخاف الله ، ولم يخف معصيته ولولا أنه مخوف في نفسه لما سخره للمعصية ، ويسر له سبيلها ، ومهد له أسبابها ، فإن تيسير أسباب المعصية إبعاد ولم يسبق منه قبل المعصية معصية استحق بها أن يسخر للمعصية ، وتجري عليه أسبابها ، ولا سبق قبل الطاعة وسيلة توسل بها من يسرت له الطاعات ، ومهد له سبيل القربات ، فالعاصي قد قضي عليه بالمعصية شاء أم أبى ، وكذا المطيع فالذي يرفع فالخوف من المعصية خوف الصالحين والخوف من الله خوف الموحدين والصديقين محمدا صلى الله عليه وسلم إلى أعلى عليين من غير وسيلة سبقت منه قبل وجوده ويضع أبا جهل في أسفل سافلين من غير جناية سبقت منه قبل وجوده ، جدير بأن يخاف منه لصفة جلاله ، فإن من أطاع الله أطاع بأن سلط عليه إرادة الطاعة وآتاه القدرة وبعد خلق الإرادة الجازمة والقدرة التامة يصير الفعل ضروريا ، والذي عصى عصى لأنه سلط عليه إرادة قوية جازمة ، وآتاه . الأسباب والقدرة ، فكان الفعل بعد الإرادة والقدرة ضروريا ، فليت شعري ما الذي أوجب إكرام هذا وتخصيصه بتسليط إرادة الطاعات عليه ، وما الذي أوجب إهانة الآخر وإبعاده بتسليط دواعي المعصية عليه ، وكيف يحال ذلك على العبد ، وإذا كانت الحوالة ترجع إلى القضاء الأزلي من غير جناية ولا وسيلة فالخوف ممن يقضي بما يشاء ، ويحكم بما يريد ، حزم عند كل عاقل ووراء هذا المعنى سر القدر لا يجوز إفشاؤه ولا يمكن أن تفهم الخوف منه في صفاته جل جلاله إلا بمثال لولا إذن الشرع لم يستجرئ على ذكره ذو بصيرة فقد جاء في الخبر أن الله تعالى أوحى إلى داود عليه السلام : يا داود خفني كما تخاف السبع الضاري فهذا المثال يفهمك حاصل المعنى ، وإن كان لا يقف بك على سببه ، فإن الوقوف على سببه وقوف على سر القدر ، ولا يكشف ذلك إلا لأهله
والحاصل أن السبع يخاف لا لجناية سبقت إليه منك بل لصفته وبطشه وسطوته ، وكبره وهيبته ، ولأنه يفعل ما يفعل ولا يبالي ، فإن قتلك لم يرق قلبه ، ولا يتألم ، بقتلك وإن خلاك : لم يخلك شفقة عليك ، وإبقاء على روحك ، بل أنت عنده أخس من أن يلتفت إليك حيا كنت أو ميتا ، بل إهلاك ألف مثلك ، وإهلاك نملة عنده على وتيرة واحدة : إذ لا يقدح
ذلك في عالم سبعيته ، وما هو موصوف به من قدرته وسطوته ، ولله المثل الأعلى ولكن من عرفه عرف بالمشاهدة الباطنة ، التي هي أقوى وأوثق وأجلى من المشاهدة الظاهرة ، أنه صادق في قوله هؤلاء إلى الجنة ولا أبالي ، وهؤلاء إلى النار ولا أبالي ويكفيك من موجبات الهيبة والخوف المعرفة بالاستغناء وعدم المبالاة .