والرجاء تقارنه المحبة ، فمن ارتجى كرمه فهو محبوب ، والمقصود من العلوم والأعمال كلها معرفة الله تعالى حتى تثمر المعرفة المحبة فإن المصير إليه ، والقدوم بالموت عليه ومن قدم على محبوبه عظم سروره بقدر محبته ومن فارق محبوبه اشتدت محنته وعذابه ، فمهما كان القلب الغالب عليه عند الموت حب الأهل ، والولد والمال ، والمسكن ، والعقار ، والرفقاء ، والأصحاب فهذا رجل محابه كلها في الدنيا ، فالدنيا جنته إذ الجنة عبارة عن البقعة الجامعة لجميع المحاب ، فموته خروج من الجنة ، وحيلولة بينه وبين ما يشتهيه ، ولا يخفى حال من يحال بينه وبين ما يشتهيه فإذا لم يكن له محبوب سوى الله تعالى ، وسوى ذكره ، ومعرفته ، والفكر فيه ، والدنيا وعلائقها شاغلة له عن المحبوب ، فالدنيا إذن سجنه ؛ لأن السجن عبارة عن البقعة المانعة للمحبوس عن الاسترواح إلى محابه ، فموته قدوم على محبوبه ، وخلاص من السجن ، ولا يخفى حال من أفلت من السجن ، وخلي بينه وبين محبوبه بلا مانع ولا مكدر فهذا أول ما يلقاه كل من فارق الدنيا عقيب موته من الثواب والعقاب ، فضلا عما أعده الله لعباده الصالحين مما لم تره عين ، ولا تسمعه أذن ولا خطر على قلب بشر وفضلا عما أعده الله تعالى للذين استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة ، ورضوا بها ، واطمأنوا إليها من الأنكال ، والسلاسل ، والأغلال ، وضروب الخزي ، والنكال ، فنسأل الله تعالى أن يتوفانا مسلمين ، ويلحقنا بالصالحين ولا مطمع في إجابة هذا الدعاء إلا باكتساب حب الله تعالى ، ولا سبيل إليه إلا بإخراج حب غيره من القلب ، وقطع العلائق عن كل ما سوى الله تعالى من جاه ، ومال ، ووطن فالأولى أن ندعو بما دعا به نبينا صلى الله عليه وسلم ؛ إذ قال : اللهم ارزقني حبك ، وحب من أحبك ، وحب ما يقربني إلى حبك ، واجعل حبك أحب إلي من الماء البارد .
والغرض أن غلبة الرجاء عند الموت أصلح لأنه أجلب للمحبة وغلبة الخوف قبل الموت أصلح لأنه أحرق لنار الشهوات ، وأقمع لمحبة الدنيا عن القلب ؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه .
وقال تعالى : أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء ولما حضرت سليمان التيمي الوفاة قال لابنه : يا بني حدثني بالرخص ، واذكر لي الرجاء ، حتى ألقى الله على حسن الظن به وكذلك لما حضرت الثوري الوفاة ، واشتد جزعه جمع العلماء حوله يرجونه .
وقال أحمد بن حنبل رضي الله تعالى عنه لابنه عند الموت : اذكر لي الأخبار التي فيها الرجاء وحسن الظن والمقصود من ذلك كله أن يحبب الله تعالى إلى نفسه ؛ ولذلك أوحى الله تعالى إلى داود عليه الصلاة والسلام أن : حببني إلى عبادي ، فقال : بماذا ؟ قال : بأن تذكر لهم آلائي ونعمائي فإذن غاية السعادة أن يموت محبا لله تعالى : وإنما تحصل المحبة بالمعرفة بإخراج حب الدنيا من القلب حتى تصير الدنيا كلها كالسجن المانع من المحبوب : ولذلك رأى بعض الصالحين أبا سليمان الداراني في المنام وهو يطير فسأله فقال : الآن أفلت : فلما أصبح سأل عن حاله ، فقيل : له إنه مات البارحة .


