وأما السبب الثاني فهو في الأصل ثم ضعف الإيمان . استيلاء حب الدنيا على القلب
ومهما ضعف الإيمان ضعف حب الله تعالى وقوي حب الدنيا فيصير بحيث لا يبقى في القلب موضع لحب الله تعالى إلا من حيث حديث النفس ولا يظهر له أثر في مخالفة النفس والعدول عن طريق الشيطان فيورث ذلك الانهماك في اتباع الشهوات حتى يظلم القلب ويقسو ويسود وتتراكم ظلمة النفوس على القلب فلا يزال يطفئ ما فيه من نور الإيمان على ضعفه حتى يصير طبعا ورينا فإذا جاءت سكرات الموت ازداد ذلك الحب أعني حب الله ضعفا لما يبدو من استشعار فراق الدنيا وهي المحبوب الغالب على القلب فيتألم القلب باستشعار فراق الدنيا ويرى ذلك من الله فيختلج ضميره بإنكار ما قدر عليه من الموت وكراهة ذلك .
من حيث إنه من الله فيخشى أن يثور في باطنه بغض الله تعالى بدل الحب كما أن الذي يحب ولده حبا ضعيفا إذا أخذ ولده أمواله التي هي أحب إليه من ولده وأحرقها انقلب ذلك الحب الضعيف بغضا فإن اتفق زهوق روحه في تلك اللحظة التي خطرت فيها هذه الخطرة فقد ختم له بالسوء وهلك هلاكا مؤبدا ، مع ضعف الإيمان الموجب لضعف حب الله تعالى ، فمن وجد في قلبه حب الله أغلب من حب الدنيا وإن كان يحب الدنيا أيضا فهو أبعد عن هذا الخطر وحب الدنيا رأس كل خطيئة وهو الداء العضال وقد عم أصناف الخلق وذلك كله لقلة المعرفة بالله تعالى ؛ إذ لا يحبه إلا من عرفه ولهذا قال تعالى : والسبب الذي يفضي إلى مثل هذه الخاتمة هو غلبة حب الدنيا والركون إليها والفرح بأسبابها قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره فإذن كل من فارقته روحه في حالة خطرة الإنكار على الله تعالى بباله وظهور بعض فعل الله بقلبه في تفريقه بينه وبين أهله وماله وسائر محابه فيكون موته قدوما على ما أبغضه وفراقا .
لما أحبه فيقدم على الله قدوم العبد المبغض الآبق إذا قدم به على مولاه قهرا فلا يخفى ما يستحقه من الخزي والنكال وأما الذي يتوفى على الحب فإنه يقدم على الله تعالى قدوم العبد المحسن المشتاق إلى مولاه الذي تحمل مشاق الأعمال ووعثاء الأسفار طمعا في لقائه فلا يخفى ما يلقاه من الفرح والسرور بمجرد القدوم فضلا عما يستحقه من لطائف الإكرام وبدائع الإنعام .