ويروى عنه عليه السلام أنه ما رفع رأسه إلى السماء حتى مات حياء من الله عز وجل وكان يقول في مناجاته إلهي إذا ذكرت خطيئتي ضاقت علي الأرض برحبها وإذا ذكرت رحمتك ارتدت إلي روحي سبحانك إلهي أتيت أطباء عبادك ليداووا خطيئتي فكلهم عليك يدلني فبؤسا للقانطين من رحمتك .
وقال الفضيل بلغني أن داود عليه السلام ذكر ذنبه ذات يوم فوثب صارخا واضعا يده على رأسه حتى لحق بالجبال ، فاجتمعت إليه السباع فقال : ارجعوا لا أريدكم إنما أريد كل بكاء على خطيئته فلا يستقبلني إلا ، بالبكاء ، ومن لم يكن ذا خطيئة فما يصنع بداود الخطاء .
وكان يعاتب في كثرة البكاء فيقول : دعوني أبكي قبل خروج يوم البكاء قبل تخريق العظام واشتعال الحشا وقبل أن يؤمر بي ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون .
وقال عبد العزيز بن عمر : لما أصاب داود الخطيئة نقص صوته فقال : إلهي بح صوتي في صفاء أصوات الصديقين .
وروي أنه عليه السلام لما طال بكاؤه ولم ينفعه ذلك ضاق ذرعه واشتد غمه ، فقال يا رب أما ترحم بكائي فأوحى الله تعالى إليه يا داود نسيت ذنبك وذكرت بكاءك ؟ فقال : إلهي وسيدي كيف أنسى ذنبي وكنت إذا تلوت الزبور كف الماء الجاري عن جريه ، وسكن هبوب الريح ، وأظلني الطير على رأسي وآنست الوحوش إلى محرابي ، إلهي وسيدي فما هذه الوحشة التي بيني وبينك ؟ فأوحى الله تعالى إليه : يا داود ، ذلك أنس الطاعة وهذه وحشة المعصية ، يا داود : آدم خلق من خلقي خلقته بيدي ونفخت فيه من روحي وأسجدت له ملائكتي وألبسته ثوب كرامتي وتوجته بتاج وقاري ، وشكا لي الوحدة فزوجته حواء أمتي وأسكنته جنتي ، عصاني فطردته عن جواري عريانا ذليلا ، يا داود اسمع مني : والحق أقول ، أطعتنا فأطعناك وسألتنا فأعطيناك وعصيتنا فأمهلناك ، وإن عدت إلينا على ما كان منك قبلناك .
وقال يحيى بن أبي كثير ، بلغنا أن داود عليه السلام كان إذا أراد أن ينوح مكث قبل ذلك سبعا لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب ولا يقرب النساء فإذا كان قبل ذلك بيوم أخرج له المنبر إلى البرية فأمر سليمان أن ينادي بصوت يستقري البلاد وما حولها من الغياض والآكام والجبال والبراري والصوامع والبيع فينادي فيها : : ألا من أراد أن يسمع نوح داود على نفسه فليأت ، قال : فتأتي الوحوش من البراري والآكام وتأتي السباع من الغياض وتأتي الهوام من الجبال وتأتي الطير من الأوكار وتأتي العذارى من خدورهن وتجتمع الناس لذلك اليوم ويأتي داود حتى يرقى المنبر ، ويحيط به بنو إسرائيل وكل صنف على حدته محيطون به ، وسليمان عليه السلام قائم على رأسه فيأخذ في الثناء على ربه فيضجون بالبكاء والصراخ ، ثم يأخذ في ذكر الجنة والنار فتموت الهوام وطائفة من الوحوش والسباع ، والناس ، ثم يأخذ في أهوال القيامة وفي النياحة على نفسه فيموت من كل نوع طائفة ، فإذا رأى سليمان كثرة الموتى قال : يا أبتاه قد مزقت المستمعين كل ممزق وماتت طوائف من بني إسرائيل ومن الوحوش والهوام فيأخذ في الدعاء فبينا هو كذلك إذ ناداه بعض عباد بني إسرائيل : يا داود ، عجلت بطلب الجزاء على ربك قال : فيخر داود مغشيا عليه ، فإذا نظر سليمان إلى ما أصابه أتى بسرير فحمله عليه ، ثم أمر مناديا ينادي : ألا من كان له مع داود حميم أو قريب فليأت بسرير ، فليحمله فإن الذين كانوا معه قد قتلهم ذكر الجنة والنار ، فكانت المرأة تأتي بالسرير وتحمل قريبها وتقول : يا من قتله ذكر النار ، يا من قتله خوف الله ، ثم إذا أفاق داود قام ووضع يده على رأسه ودخل بيت عبادته وأغلق بابه ويقول : يا إله داود ، أغضبان أنت على داود ؟ ولا يزال يناجي ربه فيأتي سليمان ويقعد على الباب ويستأذن ثم يدخل ومعه قرص من شعير فيقول : يا أبتاه تقو بهذا على ما تريد ، فيأكل من ذلك القرص ما شاء ، الله ثم يخرج إلى بني إسرائيل فيكون بينهم .
وقال يزيد الرقاشي خرج داود ذات يوم بالناس يعظهم ويخوفهم فخرج في أربعين ألفا فمات منهم ثلاثون ألفا ، وما رجع إلا في عشرة آلاف قال وكان له جاريتان اتخذهما حتى إذا جاءه الخوف وسقط فاضطرب قعدتا على صدره وعلى رجليه مخافة أن تتفرق أعضاؤه ومفاصله فيموت .
وقال رضي الله عنهما دخل ابن عمر يحيى بن زكريا عليهما السلام بيت المقدس وهو ابن ثمان حجج فنظر إلى عبادهم قد لبسوا مدارع الشعر والصوف ونظر إلى مجتهديهم قد خرقوا التراقي وسلكوا فيها السلاسل وشدوا أنفسهم إلى أطراف بيت المقدس فهاله ذلك فرجع إلى أبويه فمر بصبيان يلعبون فقالوا : له يا يحيى ، هلم بنا ، لنلعب ، فقال : إني لم أخلق للعب ، قال : فأتى أبويه فسألهما أن يدرعاه الشعر ففعلا ، فرجع إلى بيت المقدس وكان يخدمه نهارا ويصبح فيه ليلا حتى أتت عليه خمس عشرة سنة فخرج ولزم أطواد الأرض وغيران الشعاب فخرج أبواه في طلبه فأدركاه على بحيرة الأردن وقد أنقع رجليه في الماء حتى كاد العطش يذبحه وهو يقول : : وعزتك وجلالك لا أذوق بارد الشراب حتى أعلم أين مكاني منك ، فسأله أبواه أن يفطر على قرص كان معهما من شعير ويشرب من ذلك الماء ففعل وكفر عن يمينه فمدح بالبر فرده أبواه إلى بيت المقدس فكان إذا قام يصلي بكى حتى يبكي معه الشجر والمدر ويبكي زكريا عليه السلام لبكائه حتى يغمى عليه ، فلم يزل يبكي حتى خرقت دموعه لحم خديه وبدت أضراسه للناظرين فقالت له أمه : يا بني لو أذنت لي أن أتخذ لك شيئا تواري به أضراسك عن الناظرين فأذن لها فعمدت إلى قطعتي لبود فألصقتها على ، خديه ، فكان إذا قام يصلي بكى ، فإذا استنقعت دموعه في القطعتين أتت إليه أمه فعصرتهما ، فإذا رأى دموعه تسيل على ذراعي أمه قال : اللهم هذه دموعي وهذه أمي ، وأنا عبدك وأنت أرحم الراحمين ، قال له زكريا يوما :
يا بني إنما سألت ربي أن يهبك لي لتقر عيناي ، بك فقال يحيى : يا أبت أن جبريل عليه السلام أخبرني أن بين الجنة والنار مفازة لا يقطعها إلا كل بكاء .
فقال زكريا عليه السلام: يا بني فابك .
وقال المسيح عليه السلام : معاشر الحواريين ، . خشية الله وحب الفردوس يورثان الصبر على المشقة ويباعدان من الدنيا
بحق أقول لكم : إن أكل الشعير والنوم على المزابل مع الكلاب في طلب الفردوس قليل
وقيل كان الخليل صلوات الله عليه وسلامه إذا ذكر خطيئته يغشى عليه ، ويسمع اضطراب قلبه ميلا في ميل ، فيأتيه جبريل فيقول له : ربك يقرئك السلام ويقول : هل رأيت خليلا يخاف خليله ؟ فيقول : يا جبريل ، إني إذا ذكرت خطيئتي نسيت خلتي فهذه عليهم السلام فدونك والتأمل فيها فإنهم أعرف خلق الله بالله وصفاته صلوات الله عليهم أجمعين وعلى ، كل عباد الله المقربين وحسبنا الله ونعم الوكيل . أحوال الأنبياء