الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
فمن هذا الجنس تكلموا في تفضيل الغنى والفقر ، وحاصل ذلك تعلق بعمومات تقبل التأويلات وبكلمات قاصرة لا تبعد مناقضتها ، إذ كما يناقض قول من فضل الغنى بأنه صفة الحق بالتكبر فكذلك يناقض قول من ذم الغنى لأنه وصف للعبد بالعلم والمعرفة فإنه وصف الرب تعالى ، والجهل والغفلة وصف العبد وليس لأحد أن يفضل الغفلة على العلم ، فكشف الغطاء عن هذا هو ما ذكرناه في كتاب الصبر وهو أن ما لا يراد لعينه بل يراد لغيره فينبغي أن يضاف إلى مقصوده ، إذ به يظهر فضله والدنيا ليست محذورة لعينها ولكن لكونها عائقة عن الوصول إلى الله تعالى ، ولا الفقر مطلوبا لعينه لكن لأن فيه فقد العائق عن الله تعالى وعدم الشاغل عنه ، وكم من غني لم يشغله الغنى عن الله عز وجل مثل سليمان عليه السلام وعثمان وعبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنهما وكم من فقير شغله الفقر وصرفه عن القصد وغاية المقصد في الدنيا هو حب الله تعالى والأنس به ولا يكون ذلك إلا بعد معرفته ، وسلوك سبيل المعرفة مع الشواغل غير ممكن ، والفقر قد يكون من الشواغل كما الغنى قد يكون من الشواغل ، وإنما الشاغل على التحقيق حب الدنيا إذ لا يجتمع معه حب الله تعالى في القلب ، والمحب للشيء مشغول به سواء كان في فراقه ، أو في وصاله ، وربما يكون شغله في الفراق أكثر ، وربما يكون شغله في الوصال أكثر والدنيا معشوقة الغافلين المحروم منها مشغول بطلبها والقادر عليها مشغول بحفظها والتمتع بها فإذا ، إن فرضت فارغين عن حب المال بحيث صار المال في حقهما كالماء استوى الفاقد والواجد ، إذ كل واحد غير متمتع إلا بقدر الحاجة ووجود قدر الحاجة أفضل من فقده ، إذ الجائع يسلك سبيل الموت لا سبيل المعرفة ، وإن أخذت الأمر باعتبار الأكبر فالفقير عن الخطر أبعد إذ فتنة السراء أشد من فتنة الضراء ومن العصمة أن لا يقدر ولذلك قال الصحابة : رضي الله تعالى عنهم : بلينا بفتنة الضراء فصبرنا وبلينا بفتنة السراء فلم نصبر وهذه خلقة الآدميين كلهم إلا الشاذ الفذ الذي لا يوجد في الأعصار الكثيرة إلا نادرا .

ولما كان خطاب الشرع مع الكل لا مع ذلك النادر ، والضراء أصلح للكل دون ذلك النادر زجر الشرع عن الغنى وذمه وفضل الفقر ومدحه حتى قال المسيح عليه السلام : لا تنظروا إلى أموال أهل الدنيا ، فإن بريق أموالهم يذهب بنور إيمانكم .

وقال بعض العلماء : تقليب الأموال يمص حلاوة الإيمان .

وفي الخبر إن لكل أمة عجلا وعجل هذه الأمة الدينار والدرهم وكان أصل عجل قوم موسى من حلية الذهب والفضة أيضا واستواء المال والماء والذهب والحجر إنما يتصور للأنبياء عليهم السلام والأولياء .

التالي السابق


(فمن هذا الجنس تكلموا في تفضيل الغنى والفقر، وحاصل ذلك تعلق بعمومات تقبل التأويل وبكلمات قاصرة لا تبعد مناقضتها، إذ كما يناقض قول من فضل الغنى) على الفقر (بأنه صفة الحق بالتكبر) والعز والبقاء، (فكذلك يناقض قول من ذم الغنى) وفضل الفقر (بأنه وصف العبد بالعلم) والمعرفة (والقدرة فإنه وصف الرب تعالى، والجهل) والغفلة (والعجز وصف العبد وليس لأحد أن يفضل الغفلة والعجز على العلم والقدرة، فكشف الغطاء عن هذا هو ما ذكرناه في كتاب الصبر وهو أن ما لا يراد لعينه بل يراد لغيره فينبغي أن يضاف إلى مقصوده، إذ به يظهر فضله) .

وإيضاح ذلك أنه تقدم أن الفقر مطلق ومقيد، والمطلق يراد لذاته والمقيد يراد لغيره والغنى كذلك، فالغنى المراد لذاته والفقر المراد لذاته سيان في أصل المقام; لأن من افتقر إلى الله استغنى به، ومن استغنى بالله افتقر إلى الله، فالتفاوت في كمال المقام لا في أصله، فلم يبق إلا المقيد من كل واحد، وقد قلنا: إن المقيد ما له تعلق إلا بوجود المال وفقده .

فلنذكر آفات المال وفوائده، فمن تخلى من آفاته وتحلى بفوائده فهو الأفضل وإلا فالعكس .

وللمال فوائد ثلاث: الأولى أن ينفقه على نفسه، إما في عبادة أو في الاستعانة على عبادة والقلب إذا انصرف إلى ذلك لم يتفرغ للدين والفقير محروم من فضل ذلك .

الثانية: ما يقي به العرض ويتحصل به المروءة وحسن الخلق، وما يتقي به إضاعة الأوقات، كالخادم فإن الأوقات التي يصرفها في خدمة نفسه إذا تولاها غيره استفاد عمرا جديدا ليصرفه في الفكر والعلم، ويستفيد من الفكر والعلم محبة الله والأنس به .

الثالثة: وهو ما يتعدى نفعه كبناء المساجد والرباطات وحفر الآبار في الطرق وغير ذلك مما هو مستجلب لأدعية الصالحين .

وللمال أيضا آفات ثلاث: الأولى: أنه يجر إلى المعصية، ومن العصمة أن لا يجد، والصبر مع القدرة شديد. الثانية: أنه يجر إلى النعم بالمباح، ومتى تعودت النفس ذلك تولد منها آفات عظيمة، والفقير بمعزل عن ذلك. الثالثة: وهي التي لا ينفك عنها أحد وهي أنه يلهيه إصلاح ماله عن ذكر الله - عز وجل - وكل ما شغل عن الله تعالى فهو خسران، فالأفضل من قامت به هذه الفوائد وسلم من هذه الآفات ومن لم يكن كذلك وإلا ففي الفقر السلامة الكبرى .

وهذا حاصل ما يذكره المصنف فلنشرع فيه، قال: (والدنيا ليست محذورة لعينها) أي: لذاتها (ولكن لكونها عائقة عن الوصول إلى الله تعالى، ولا الفقر مطلوبا لعينه لكن لأن فيه فقد العائق عن الله تعالى وعدم الشاغل عنه، وكم من غني لم يشغله الغنى عن الله تعالى مثل سليمان - عليه السلام -) وكذا داود وإبراهيم عليهما السلام فإنهم كانوا أصحاب جدة (و) مثل (عثمان) بن عفان (وعبد الرحمن بن عوف) - رضي الله عنهما - فإنهما من أغنياء الصحابة فهؤلاء كلهم لم يشغلهم الغنى عن الله تعالى .

(وكم من فقير شغله الفقر وصرفه عن القصد) كغالب أبناء الدنيا (وغاية المقصد في الدنيا هو حب الله تعالى والأنس به ولا يكون ذلك إلا بعد معرفته، وسلوك سبيل المعرفة مع) وجود (الشواغل) الصارفة (غير ممكن، والفقر قد يكون من الشواغل كما أن الغنى قد يكون من الشواغل، وإنما الشاغل على التحقيق حب الدنيا) وهو أساس كل خطيئة (إذ لا يجتمع معه حب الله في القلب، والمحب للشيء مشغول به سواء كان في فراقه، أو في وصاله، وربما يكون شغله في الفراق أكثر، وربما يكون شغله في الوصال أكثر) باختلاف الأشخاص والأحوال (والدنيا معشوقة الغافلين) والمغترين (المحروم عنها مشغول بطلبها) بأي وجه [ ص: 289 ] اتفق (والقادر عليها مشغول بحظها) ورعايتها وتنميتها (وبالتمتع بها، فإذا إن فرضت فارغين عن حب المال بحيث صار المال في حقهما كالماء استوى الفاقد والواجد، إذ كل واحد غير متمتع إلا بقدر الحاجة) الضرورية .

(ووجود قدر الحاجة أفضل من فقده، إذ الجائع يسلك سبيل الموت لا سبيل المعرفة، وإن أخذت الأمر باعتبار الأكثر فالفقير عن الخطر أبعد) والداعية لا تتحرك إلا باستشعار القدرة فإن صبر فالصبر مع القدرة شديد (إذ فتنة السراء أشد من فتنة الضراء ومن العصمة أن لا يقدر) وهو من قول علي - رضي الله عنه - كما تقدم (ولذلك قال الصحابة - رضي الله عنهم -: بلينا بفتنة الضراء فصبرنا وبلينا بفتنة السراء فلم نصبر) روي ذلك من قول عبد الرحمن بن عوف كما في الحلية، وقد تقدم .

(وهذه خلقة الآدميين كلهم إلا الشاذ الفذ الذي لا يوجد في الأمصار الكثيرة إلا نادرا) والنادر كالمعدوم (ولما كان خطاب الشرع مع الكل لا مع ذلك النادر، والضراء أصلح للكل دون ذلك النادر زجر الشرع عن الغنى وذمه وفضل الفقر ومدحه حتى قال المسيح - عليه السلام -: لا تنظروا إلى أموال أهل الدنيا، فإن بريق أموالهم يذهب بنور إيمانكم) نقله صاحب القوت، (وقال بعض العلماء: تقليب الأموال لص حلاوة الإيمان) نقله صاحب القوت (وفي الخبر: أن لكل أمة عجلا وعجل هذه الأمة الدينار والدرهم) قال صاحب القوت: رويناه من طريق، وقال العراقي: رواه الديلمي في مسند الفردوس من طريق أبي عبد الرحمن السلمي من حديث حذيفة بإسناد فيه جهالة. اهـ .

قلت: لفظ الديلمي: لكل أمة عجل يعبدونه وعجل أمتي الدراهم والدنانير، وروي أيضا من حديث أبي هريرة: لكل شيء آفة تفسد، وأعظم الآفات آفة تصيب أمتي حبهم الدنيا وحبهم الدينار والدرهم، وفي القوت: وفي الأثر لكل أمة فتنة وإن فتنة أمتي هذا المال.

(وكان أصل عجل قوم موسى) - عليه السلام - (من حلية الذهب والفضة أيضا) كما هو بنص القرآن (فاستواء المال والماء والذهب والحجر إنما يتصور للأنبياء والأولياء) روى ابن أبي الدنيا وابن عساكر عن فضيل بن عياض قال: ضرب عيسى - عليه السلام - بيده إلى الأرض فقبض منها ثم بسطها، فإذا في إحدى يديه ذهب وفي الأخرى مدر، فقال لأصحابه: أيهما أحلى في قلوبكم؟ قالوا: الذهب، قال: فإنهما عندي سواء.




الخدمات العلمية