وقد ذكرنا هل الأفضل إظهار الأخذ أو إخفاؤه في كتاب أسرار الزكاة مع جملة من أحكام الفقر فليطلب من موضعه .
وأما عن قبول أحمد بن حنبل عطاء سري السقطي رحمهما الله فإنما كان لاستغنائه عنه ، إذ كان عنده قوت شهر ، ولم يرض لنفسه أن يشتغل بأخذه وصرفه إلى غيره ، فإن في ذلك آفات وأخطارا والورع يكون حذرا من مظان الآفات إذ . لم يأمن مكيدة الشيطان على نفسه . امتناع
وقال بعض المجاورين بمكة : كانت عندي دراهم أعددتها للإنفاق في سبيل الله ، فسمعت فقيرا قد فرغ من طوافه وهو يقول بصوت خفي أنا جائع كما ترى عريان كما ترى ، فما ترى فيما ترى يا من يرى ولا يرى ؟ فنظرت فإذا عليه خلقان لا تكاد تواريه فقلت في نفسي : لا أجد لدراهمي موضعا أحسن من هذا فحملتها إليه فنظر إليها ثم أخذ منها خمسة دراهم وقال : أربعة ثمن مئزرين ، ودرهم أنفقه ثلاثة فلا حاجة بي إلى الباقي ، فرده قال : فرأيته الليلة الثانية وعليه مئزران جديدان فهجس في نفسي منه شيء فالتفت إلي فأخذ بيدي فأطافني معه أسبوعا كل شوط منها على جوهر من معادن الأرض يتخشخش تحت أقدامنا إلى الكعبين منها ذهب وفضة وياقوت ولؤلؤ وجوهر ولم يظهر ذلك للناس ، فقال هذا كله قد أعطانيه فزهدت فيه وآخذ من أيدي الخلق ؟ لأن هذه أثقال وفتنة وذلك للعباد فيه رحمة ونعمة والمقصود من هذا أن الزيادة على قدر الحاجة إنما تأتيك ابتلاء وفتنة لينظر الله إليك ماذا تعمل فيه ، وقدر الحاجة يأتيك رفقا بك فلا تغفل عن الفرق بين الرفق والابتلاء .
قال الله تعالى : إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا وقد قال صلى الله عليه وسلم : لا حق لابن آدم إلا في ثلاث : طعام يقيم صلبه ، وثوب يواري عورته ، وبيت يكنه فما زاد فهو حساب فإذا أنت في أخذ قدر الحاجة من هذه الثلاث مثاب وفيما زاد عليه إن لم تعص الله متعرض للحساب وإن عصيت الله فأنت متعرض للعقاب .
ومن الاختبار أيضا أن فتأتيك عفوا صفوا لتمتحن بها قوة عقلك فالأولى الامتناع عنها ، فإن النفس إذا رخص لها في نقض العزم ألفت نقض العهد وعادت لعادتها ولا يمكن قهرها فرد ذلك مهم وهو الزهد فإن أخذته وصرفته إلى محتاج فهو غاية الزهد ولا يقدر عليه إلا الصديقون وأما إذا كانت حالك السخاء والبذل والتكفل بحقوق الفقراء وتعهد جماعة من الصلحاء فخذ ما زاد على حاجتك فإنه غير زائد على حاجة الفقراء وبادر به إلى الصرف إليهم ولا تدخره فإن إمساكه ولو ليلة واحدة فيه فتنة واختبار فربما يحلو في قلبك فتمسكه فيكون فتنة عليك وقد تصدى لخدمة الفقراء جماعة اتخذوها وسيلة إلى التوسع في المال والتنعم في المطعم والمشرب وذلك هو الهلاك ومن كان غرضه الرفق وطلب الثواب به فله أن يستقرض على حسن الظن بالله لا على اعتماد السلاطين الظلمة فإن ، رزقه الله من حلال قضاه ، وإن مات قبل القضاء قضاه الله تعالى عنه وأرضى غرماءه ، وذلك بشرط أن يكون مكشوف الحال عند من يقرضه فلا يغر المقرض ولا يخدعه بالمواعيد بل يكشف حاله عنده ليقدم على إقراضه على بصيرة ودين مثل هذا الرجل واجب أن يقضى من مال بيت المال ومن الزكاة وقد قال تعالى : تعزم على ترك لذة من اللذات تقربا إلى الله تعالى وكسرا لصلة النفس ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله قيل : معناه ليبع أحد ثوبيه .
وقيل : معناه فليستقرض بجاهه فذلك مما آتاه الله .
وقال بعضهم إن : لله تعالى عبادا ينفقون على قدر بضائعهم ولله عباد ينفقون على قدر حسن الظن بالله تعالى .
ومات بعضهم فأوصى بماله لثلاث طوائف : الأقوياء والأسخياء والأغنياء ، فقيل من هؤلاء ؟ فقال : أما الأقوياء فهم أهل التوكل على الله تعالى ، وأما الأسخياء فهم أهل حسن الظن بالله تعالى ، وأما الأغنياء فهم أهل الانقطاع إلى الله تعالى فإذا مهما وجدت هذه الشروط فيه ، وفي المال ، وفي المعطي فليأخذه لأن المعطي واسطة قد سخر للعطاء وهو مضطر إليه بما سلط عليه من الدواعي والإرادات والاعتقادات وقد حكي أن بعض الناس دعا شقيقا في خمسين من أصحابه فوضع الرجل مائدة حسنة ، فلما قعد قال لأصحابه : إن هذا الرجل يقول من لم يرن صنعت هذا الطعام وقدمته فطعامي عليه حرام ، فقاموا كلهم وخرجوا إلا شابا منهم كان دونهم في الدرجة فقال صاحب المنزل وينبغي أن يرى ما يأخذه من الله لا من المعطي لشقيق ما : قصدت بهذا ؟ قال : أردت أن أختبر توحيد أصحابي كلهم .
وقال موسى عليه السلام : يا رب جعلت رزقي هكذا على أيدي بني إسرائيل يغديني هذا يوما ، ويعشيني هذا ليلة ، فأوحى الله تعالى إليه : هكذا أصنع بأوليائي أجري أرزاقهم على أيدي البطالين من عبادي ليؤجروا فيهم .
فلا ينبغي أن يرى المعطي إلا من حيث أنه مسخر مأجور من الله تعالى نسأل الله حسن التوفيق لما يرضاه .