بيان مقدار الغنى المحرم للسؤال .
اعلم أن قوله : صلى الله عليه وسلم : صريح في التحريم ولكن حد الغنى مشكل وتقديره عسير ، وليس إلينا وضع المقادير ، بل يستدرك ذلك بالتوقيف وقد ورد في الحديث من سأل عن ظهر غنى فإنما يسأل جمرا فليستقل منه أو ليستكثر استغنوا بغنى الله تعالى عن غيره قالوا : وما هو قال : غداء يوم وعشاء ليلة وفي حديث آخر : من سأل وله خمسون درهما أو عدلها من الذهب فقد سأل إلحافا وورد في لفظ آخر : أربعون درهما ومهما اختلفت التقديرات وصحت الأخبار فينبغي أن يقطع بورودها على أحوال مختلفة فإن الحق في نفسه لا يكون إلا واحدا والتقدير ممتنع وغاية الممكن فيه تقريب ، ولا يتم ذلك إلا بتقسيم محيط بأحوال المحتاجين ، فنقول : قال رسول : صلى الله عليه وسلم : لا حق لابن آدم إلا في ثلاث : طعام يقيم صلبه ، وثوب يواري به عورته ، وبيت يكنه ، فما زاد فهو حساب فلنجعل هذه الثلاث أصلا في الحاجات لبيان أجناسها والنظر في الأجناس والمقادير والأوقات ، فأما الأجناس فهي هذه الثلاث ، ويلحق بها ما في معناها حتى يلحق بها الكراء للمسافر إذا كان لا يقدر على المشي ، وكذلك ما يجري مجراه من المهمات ويلحق بنفسه عياله وولده وكل من تحت كفالته كالدابة أيضا .
وأما المقادير فالثوب يراعى فيه ما يليق بذوي الدين وهو ثوب واحد وقميص ومنديل وسراويل ومداس وأما الثاني من كل جنس فهو مستغنى عنه ، وليقس على هذا أثاث البيت جميعا ولا ينبغي أن يطلب رقة الثياب وكون الأواني من النحاس والصفر فيما يكفي فيه الخزف فإن ذلك مستغنى عنه ، فيقتصر من العدد على واحد ومن النوع على أخس أجناسه ما لم يكن في غاية البعد عن العادة .
وأما الطعام فقدره في اليوم مد وهو ما قدره الشرع ونوعه ما يقتات ولو كان من الشعير .
والأدم على الدوام فضلة وقطعه ، بالكلية إضرار ، ففي طلبه في بعض الأحوال رخصة .
وأما المسكن فأقله ما يجزئ من حيث المقدار وذلك من غير زينة ، فأما السؤال للزينة والتوسع فهو سؤال عن ظهر غنى ، وأما بالإضافة إلى الأوقات فما يحتاج إليه في الحال من طعام يوم وليلة وثوب يلبسه ومأوى يكنه فلا شك فيه .
فأما فهذا له ثلاث درجات : إحداها : ما يحتاج إليه في غد ، والثانية : ما يحتاج إليه في أربعين يوما أو خمسين يوما ، والثالثة : ما يحتاج إليه في السنة ولنقطع بأن من معه ما يكفيه له ولعياله إن كان له عيال لسنة فسؤاله حرام فإن ذلك غاية الغنى وعليه ينزل التقدير بخمسين درهما في الحديث فإن خمسة دنانير تكفي المنفرد في السنة إذا اقتصد أما المعيل فربما لا يكفيه ذلك وإن كان يحتاج إليه قبل السنة فإن كان قادرا على السؤال ولا تفوته فرصته فلا يحل له السؤال ؛ لأنه مستغن في الحال وربما لا يعيش إلى الغد فيكون قد سأل ما لا يحتاج فيكفيه غداء يوم وعشاء ليلة ، وعليه ينزل الخبر الذي ورد في التقدير بهذا القدر . سؤاله للمستقبل
وإن كان يفوته فرصة السؤال ولا يجد من يعطيه لو أخر فيباح له السؤال لأن أمل البقاء سنة غير بعيد ، فهو بتأخير السؤال خائف أن يبقى مضطرا عاجزا عما يعينه ، فإن كان خوف العجز عن السؤال في المستقبل ضعيفا وكان ما لأجله السؤال خارجا عن محل الضرورة لم يخل سؤاله عن كراهية ، وتكون كراهته بحسب درجات ضعف الاضطرار وخوف الفوت وتراخي المدة التي فيها يحتاج إلى السؤال ، وكل ذلك لا يقبل الضبط وهو منوط باجتهاد العبد ونظره لنفسه بينه وبين الله تعالى ، فيستفتي فيه قلبه ويعمل به إن سالكا طريق الآخرة وكل من كان يقينه أقوى ، وثقته بمجيء الرزق في المستقبل أتم ، وقناعته بقوت الوقت أظهر ، فدرجته عند الله تعالى أعلى فلا يكون خوف الاستقبال وقد آتاك الله قوت يومك لك ولعيالك إلا من ضعف اليقين والإصغاء إلى تخويف الشيطان ، وقد قال تعالى : فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين وقال : عز وجل : الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والسؤال من الفحشاء التي أبيحت بالضرورة وحال من يسأل لحاجة متراخية عن يومه وإن كان مما يحتاج إليه في السنة أشد من حال من ملك مالا موروثا وادخره لحاجة وراء السنة ، وكلاهما مباحان في الفتوى الظاهرة ولكنهما صادران عن حب الدنيا وطول الأمل وعدم الثقة بفضل الله وهذه الخصلة من أمهات المهلكات نسأل الله حسن التوفيق بلطفه وكرمه .