وأما والزاهد هو الذي يرى تفاوته بالإضافة إلى نفسه لا إلى غيره فهو ترك واحد ؛ لأنه بيع ومعاملة واستبدال للذي هو خير بالذي هو أدنى فكما أن العمل الصادر من عقد البيع هو ترك المبيع وإخراجه من اليد وأخذ العوض ، فكذلك الزهد يوجب ترك المزهود فيه بالكلية وهي الدنيا بأسرها مع أسبابها ومقدماتها وعلائقها فيخرج من القلب حبها ويدخل حب الطاعات ويخرج من العين واليد ما أخرجه من القلب ، ويوظف على اليد والعين وسائر الجوارح وظائف الطاعات ، وإلا كان كمن سلم المبيع ولم يأخذ الثمن ، فإذا وفى بشرط الجانبين في الأخذ والترك فليستبشر ببيعه الذي بايع به ، فإن الذي بايعه بهذا البيع وفي بالعهد فمن سلم حاضرا في غائب ، وسلم الحاضر وأخذ يسعى في طلب الغائب ، سلم إليه الغائب حين فراغه من سعيه ، إن كان العاقد ممن يوثق بصدقه وقدرته ووفائه بالعهد وما دام ممسكا للدنيا لا يصح زهده أصلا ، ولذلك لم يصف الله تعالى إخوة العمل الصادر عن حال الزهد يوسف بالزهد في بنيامين وإن كانوا قد قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا وعزموا على إبعاده كما عزموا على يوسف حتى تشفع فيه أحدهم فترك ولا وصفهم أيضا بالزهد في يوسف عند العزم على إخراجه بل عند التسليم والبيع ، فعلامة الرغبة والإمساك وعلامة الزهد والإخراج فإن أخرجت عن اليد بعض الدنيا دون البعض فأنت زاهد فيما أخرجت فقط ، ولست زاهدا مطلقا ، وإن لم يكن لك مال ولم تساعدك الدنيا لم يتصور منك الزهد لأن ما لا يقدر عليه لا يقوى على تركه وربما يستهويك الشيطان بغروره ويخيل إليك أن الدنيا وإن لم تأتك فأنت زاهد فيها فلا ينبغي أن تتدلى بحبل غروره دون أن تستوثق وتستظهر بموثق غليظ من الله ، فإنك إذا لم تجرب حال القدرة فلا تثق بالقدرة على الترك عندها ؛ فكم من ظان بنفسه كراهة المعاصي عند تعذرها فلما تيسرت له أسبابها من غير مكدر ولا خوف من الخلق وقع فيها ، وإذا كان هذا غرور النفس في المحظورات فإياك أن تثق بوعدها في المباحات والموثق الغليظ الذي تأخذه عليها أن تجربها مرة بعد مرة في حال القدرة ، فإذا وفت بما وعدت على الدوام مع انتقاء الصوارف والأعذار ظاهرا وباطنا فلا بأس أن تثق بها وثوقا ما ولكن تكون من تغيرها أيضا على حذر ، فإنها سريعة النقض للعهد قريبة الرجوع إلى مقتضى الطبع .