الدرجة الثالثة وهي العليا أن لا يكون له رغبة إلا في الله وفي لقائه فلا يلتفت قلبه إلى الآلام ليقصد الخلاص منها ولا إلى اللذات ليقصد نيلها والظفر بها ، بل هو مستغرق الهم بالله تعالى ، وهو الذي أصبح وهمومه هم واحد وهو الموحد الحقيقي الذي لا يطلب غير الله تعالى ؛ لأن من طلب غير الله فقد عبده وكل مطلوب معبود وكل طالب عبد بالإضافة إلى مطلبه ، وطلب غير الله من الشرك الخفي ، وهذا وهم العارفون لأنه لا يحب الله تعالى خاصة إلا من عرفه وكما أن من عرف الدينار والدرهم وعلم أنه لا يقدر على الجمع بينهما لم يحب إلا الدينار . زهد المحبين
فكذلك من عرف الله وعرف لذة النظر إلى وجهه الكريم وعرف أن الجمع بين تلك اللذة وبين لذة التنعم بالحور العين والنظر إلى نقش القصور وخضرة الأشجار غير ممكن فلا يحب إلا لذة النظر ولا يؤثر غيره ولا تظنن أن أهل الجنة عند النظر إلى وجه الله تعالى يبقى للذة الحور والقصور متسع في قلوبهم بل تلك اللذة بالإضافة إلى لذة نعيم أهل الجنة كلذة ملك الدنيا والاستيلاء على أطراف الأرض ورقاب الخلق بالإضافة إلى لذة الاستيلاء على عصفور واللعب به والطالبون لنعيم الجنة عند أهل المعرفة وأرباب القلوب كالصبي الطالب للعب بالعصفور التارك للذة الملك وذلك لقصوره عن إدراك لذة الملك لا لأن اللعب بالعصفور في نفسه أعلى وألذ من الاستيلاء بطريق الملك على كافة الخلق .
وأما فقد كثرت فيه الأقاويل ولعل المذكور فيه يزيد على مائة قول فلا نشتغل بنقل الأقاويل ولكن نشير إلى كلام محيط بالتفاصيل حتى يتضح أن أكثر ما ذكر فيه قاصر عن الإحاطة بالكل . فنقول : المرغوب عنه بالزهد له إجمال وتفصيل ولتفصيله مراتب بعضها أشرح لآحاد الأقسام وبعضها أجمل للمجمل . انقسامه بالإضافة إلى المرغوب عنه
أما الإجمال في الدرجة الأولى فهو كل ما سوى الله فينبغي أن يزهد فيه حتى يزهد في نفسه أيضا والإجمال في الدرجة الثانية أن يزهد في كل صفة للنفس فيها متعة وهذا يتناول جميع مقتضيات الطبع من الشهوة والغضب والكبر والرياسة والمال والجاه وغيرها .
وفي الدرجة الثالثة . أن يزهد في المال والجاه وأسبابهما إذ إليهما ترجع جميع حظوظ النفس
وفي الدرجة الرابعة إذ الأموال وإن كثرت أصنافها فيجمعها الدينار والدرهم ، والجاه وإن كثرت أسبابه فيرجع إلى العلم والقدرة وأعني به كل علم وقدرة مقصودها ملك القلوب إذ معنى الجاه هو ملك القلوب والقدرة عليها كما أن معنى المال ملك الأعيان والقدرة عليها ، فإن جاوزت هذا التفصيل إلى شرح وتفصيل أبلغ من هذا فيكاد يخرج ما فيه الزهد عن الحصر . أن يزهد في العلم والقدرة والدينار والدرهم والجاه
وقد ذكر الله تعالى في آية واحدة سبعة منها فقال زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا ثم رده في آية أخرى إلى خمسة فقال عز وجل اعلموا أنما : الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد ثم رده تعالى في موضع آخر إلى اثنين فقال تعالى إنما الحياة الدنيا لعب ولهو ثم رد الكل إلى واحد في موضع آخر فقال ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى فالهوى لفظ يجمع جميع حظوظ النفس في الدنيا فينبغي أن يكون الزهد فيه .
وإذا فهمت طريق الإجمال والتفصيل عرفت أن البعض من هذه لا يخالف البعض وإنما يفارقه في الشرح مرة والإجمال أخرى .
فالحاصل أن فقصر أمله لا محالة ؛ لأنه إنما يريد البقاء ليتمتع ويريد التمتع الدائم بإرادة البقاء فإن من أراد شيئا أراد دوامه ولا معنى لحب الحياة إلا حب دوام ما هو موجود أو ممكن في هذه الحياة ، فإذا رغب عنها لم يردها ولذلك لما كتب عليهم القتال قالوا الزهد عبارة عن الرغبة عن حظوظ النفس كلها ومهما رغب عن حظوظ النفس رغب عن البقاء في الدنيا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب فقال تعالى قل متاع الدنيا قليل أي : لستم تريدون البقاء إلا لمتاع الدنيا فظهر عند ذلك الزاهدون وانكشف حال المنافقين .