وأما بالإضافة إلى خفايا ما يتركه فلا نهاية للزهد فيه إذ لا نهاية لما تتمتع به النفس في الخطرات واللحظات وسائر الحالات لا سيما خفايا الرياء فإن ذلك لا يطلع عليه إلا سماسرة العلماء بل الأحوال الظاهرة أيضا فيها لا تتناهى فمن أقصى درجاته زهد درجات الزهد عيسى عليه السلام : إذ توسد حجرا في نومه فقال له الشيطان أما كنت تركت الدنيا فما الذي بدا لك ؟ قال : وما الذي تجدد قال توسدك الحجر أي : تنعمت برفع رأسك عن الأرض في النوم فرمى الحجر وقال خذه مع ما تركته لك .
وروي عن يحيى بن زكريا عليهما السلام : أنه لبس المسوح حتى ثقب جلده تركا للتنعم بلين اللباس واستراحة حس اللمس فسألته أمه أن يلبس مكان المسح جبة من صوف ففعل فأوحى الله تعالى إليه يا يحيى آثرت علي الدنيا فبكى ونزع الصوف وعاد إلى ما كان عليه .
وقال أحمد رحمه الله تعالى الزهد زهد أويس بلغ من العري أن جلس في قوصرة .
وجلس عيسى عليه السلام : في ظل حائط إنسان فأقامه صاحب الحائط فقال ما أقمتني أنت إنما أقامني الذي لم يرض لي أن أتنعم بظل الحائط فإذا درجات الزهد ظاهرا وباطنا لا حصر لها وأقل درجاته الزهد في كل شبهة ومحظور .
وقال قوم الزهد هو الزهد الحلال في الشبهة والمحظور ، فليس ذلك من درجاته في شيء ثم رأوا أنه لم يبق حلال في أموال الدنيا فلا يتصور الزهد الآن .
فإن قلت : مهما كان الصحيح هو أن ومكالمتهم وكل ذلك اشتغال بما سوى الله تعالى ؟ فاعلم أن معنى الانصراف عن الدنيا إلى الله تعالى هو الإقبال بكل القلب عليه ذكرا وفكرا ولا يتصور ذلك إلا مع البقاء ولا بقاء إلا بضروريات النفس فمهما اقتصرت من الدنيا على دفع المهلكات عن البدن وكان غرضك الاستعانة بالبدن على العبادة لم تكن مشتغلا بغير الله فإن ما لا يتوصل إلى الشيء إلا به فهو منه ، فالمشتغل بعلف الناقة وبسقيها في طريق الحج ليس معرضا عن الحج ، ولكن ينبغي أن يكون بدنك في طريق الله مثل ناقتك في طريق الحج ولا غرض لك في تنعم ناقتك باللذات بل غرضك مقصور على دفع المهلكات عنها حتى تسير بك إلى مقصدك فكذلك ينبغي أن تكون في صيانة بدنك عن الجوع والعطش المهلك بالأكل والشرب وعن الحر والبرد المهلك باللباس والمسكن فتقصر على قدر الضرورة ولا تقصد التلذذ بل التقوي على طاعة الله تعالى فذلك لا يناقض الزهد بل هو شرط الزهد وإن قلت : فلا بد وأن أتلذذ بالأكل عند الجوع فاعلم أن ذلك لا يضرك إذا لم يكن قصدك التلذذ ، فإن شارب الماء البارد قد يستلذ الشرب ويرجع حاصله إلى زوال ألم العطش ومن يقضي حاجته قد يستريح بذلك . الزهد ترك ما سوى الله ، فكيف يتصور ذلك مع الأكل والشرب واللبس ومخالطة الناس
ولكن لا يكون ذلك مقصودا عنده ومطلوبا بالقصد فلا يكون القلب منصرفا إليه فالإنسان قد يستريح في قيام الليل بتنسم الأسحار وصوت الأطيار ولكن إذا لم يقصد طلب موضع لهذه الاستراحة فما يصيبه من ذلك بغير قصد لا يضره ولقد كان في الخائفين من طلب موضعا لا يصيبه فيه نسيم الأسحار خيفة من الاستراحة به وأنس القلب معه فيكون فيه أنس بالدنيا ونقصان في الأنس بالله بقدر وقوع الأنس بغير الله ولذلك كان داود الطائي له جب مكشوف فيه ماؤه فكان لا يرفعه من الشمس ويشرب الماء الحار ويقول : من وجد لذة الماء البارد شق عليه مفارقة الدنيا فهذه مخاوف المحتاطين والحزم في جميع ذلك الاحتياط فإنه وإن كان شاقا فمدته قريبة والاحتماء مدة يسيرة للتنعم على التأبيد لا يثقل على أهل المعرفة القاهرين لأنفسهم بسياسة الشرع المعتصمين بعروة اليقين في معرفة المضادة التي بين الدنيا والدين رضي الله تعالى عنهم أجمعين .