المهم الثالث : المسكن . وللزهد فيه أيضا ثلاث درجات أعلاها أن لا يطلب موضعا خاصا لنفسه فيقنع بزوايا المساجد كأصحاب الصفة .
وأوسطها أن يطلب موضعا خاصا لنفسه مثل كوخ مبني من سعف أو خص ما يشبهه وأدناها أن يطلب حجرة مبنية إما بشراء أو إجارة فإن كان قدر سعة المسكن على قدر حاجته من غير زيادة ولم يكن فيه زينة لم يخرجه هذا القدر عن آخر درجات الزهد ، فإن طلب التشييد والتجصيص والسعة وارتفاع السقف أكثر من ستة أذرع فقد جاوز بالكلية فاختلاف ، جنس البناء بأن يكون من الجص أو القصب أو بالطين أو بالآجر واختلاف قدره بالسعة والضيق واختلاف طوله بالإضافة إلى الأوقات بأن يكون مملوكا أو مستأجرا أو مستعارا والزهد ، مدخل في جميع ذلك . حد الزهد في المسكن
وبالجملة كل ما يراد للضرورة فلا ينبغي أن يجاوز حد الضرورة .
وقدر الضرورة من الدنيا آلة الدين ووسيلته وما جاوز ذلك فهو مضاد للدين ، والغرض من المسكن دفع المطر والبرد ودفع الأعين والأذى وأقل الدرجات فيه معلوم وما زاد عليه فهو الفضول والفضول كله من الدنيا ، وطالب الفضول والساعي له بعيد من الزهد جدا وقد قيل أول شيء ظهر من طول الأمل بعد رسول الله : صلى الله عليه وسلم التدريز والتشييد يعني بالتدريز كف دروز الثياب فإنها كانت تشل شلا والتشييد هو البنيان بالجص والآجر وإنما كانوا يبنون بالسعف والجريد وقد جاء في الخبر يأتي على الناس زمان يوشون ثيابهم كما توشى البرود اليمانية وأمر رسول الله : صلى الله عليه وسلم العباس أن يهدم علية كان قد علا بها .
ومر عليه السلام بجنبذة معلاة فقال : لمن هذه ؟ قالوا لفلان فلما جاءه الرجل أعرض عنه فلم يكن يقبل عليه كما كان فسأل الرجل أصحابه عن تغيير وجهه صلى الله عليه وسلم فأخبر فذهب فهدمها فمر رسول الله : صلى الله عليه وسلم بالموضع فلم يرها فأخبر بأنه هدمها فدعا له بخير .
وقال الحسن مات رسول الله : صلى الله عليه وسلم : ولم يضع لبنة على لبنة ولا قصبة على قصبة وقال النبي : صلى الله عليه وسلم إذا أراد الله بعبد شرا أهلك ماله في الماء والطين وقال عبد الله بن عمر واتخذ مر علينا رسول الله : صلى الله عليه وسلم ونحن نعالج خصا فقال : ما هذا ؟ قلنا : خص لنا قد وهى فقال : أرى الأمر أعجل من ذلك نوح عليه السلام : بيتا من قصب فقيل له : لو بنيت فقال : هذا كثير لمن يموت وقال الحسن دخلنا على صفوان بن محيريز وهو في بيت من قصب قد مال عليه فقيل له لو أصلحته ، فقال : كم من رجل قد مات وهذا قائم على حاله ، وقال النبي : صلى الله عليه وسلم : وفي الخبر من بنى فوق ما يكفيه كلف أن يحمله يوم القيامة كل نفقة في الأرض يؤجر عليها إلا ما أنفقه في الماء والطين وفي قوله تعالى : تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا إنه الرياسة والتطاول في البنيان .
وقال صلى الله عليه وسلم كل بناء وبال على صاحبه يوم القيامة إلا ما أكن من حر أو برد وقال صلى الله عليه وسلم : للرجل الذي شكا إليه ضيق منزله : اتسع في السماء أي في الجنة ونظر رضي الله عنه : في طريق عمر الشام إلى صرح قد بني بجص وآجر فكبر وقال : ما كنت أظن أن يكون في هذه الأمة من يبني بنيان هامان لفرعون ، يعني قول فرعون : فأوقد لي يا هامان على الطين يعني به الآجر ويقال : إن فرعون هو أول من بني له بالجص والآجر وأول من عمله هامان ثم تبعهما الجبابرة وهذا هو الزخرف ورأى بعض السلف جامعا في بعض الأمصار فقال : أدركت هذا المسجد مبنيا من الجريد والسعف ثم رأيته من رهص ثم رأيته الآن مبنيا باللبن فكان أصحاب السعف خيرا من أصحاب الرهص وكان أصحاب الرهص خيرا من أصحاب اللبن وكان من السلف من يبني داره مرارا في مدة عمره لضعف بنائه وقصر أمله وزهده في إحكام البنيان وكان منهم من إذا حج أو غزا نزع بيته أو وهبه لجيرانه فإذا رجع أعاده وكانت بيوتهم من الحشيش والجلود وهي عادة العرب الآن ببلاد اليمن وكان ارتفاع بناء السقف قامة وبسطة .
قال الحسن كنت إذا دخلت بيوت رسول الله : صلى الله عليه وسلم ضربت بيدي إلى السقف .
وقال عمرو بن دينار إذا أعلى العبد البناء فوق ستة أذرع ناداه ملك إلى أين يا أفسق الفاسقين وقد نهى سفيان عن النظر إلى بناء مشيد وقال : لولا نظر الناس لما شيدوا فالنظر إليه معين عليه .
وقال الفضيل إني لم أعجب ممن بنى وترك ولكن أعجب ممن نظر إليه ولم يعتبر .
وقال رضي الله عنه يأتي قوم يرفعون الطين ويضعون الدين ويستعملون البرازين يصلون إلى قبلتكم ويموتون على غير دينكم . ابن مسعود