بيان حقيقة التوحيد الذي هو أصل التوكل .
اعلم أن التوكل من باب الإيمان وجميع أبواب الإيمان لا تنتظم إلا بعلم وحال وعمل والتوكل كذلك ينتظم من علم هو الأصل وعمل هو الثمرة وحال هو المراد باسم التوكل .
فلنبدأ ببيان العلم الذي هو الأصل وهو المسمى إيمانا في أصل اللسان إذ الإيمان هو التصديق وكل تصديق بالقلب فهو علم وإذا قوي سمي يقينا ولكن أبواب اليقين كثيرة ونحن إنما نحتاج منها إلى ما نبني عليه التوكل ، وهو التوحيد الذي يترجمه قولك : لا إله إلا الله وحده لا شريك له والإيمان بالقدرة التي يترجم عنها قولك : له الملك والإيمان بالجود والحكمة الذي يدل عليه قولك : وله الحمد فمن قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير . تم له الإيمان الذي هو ، أعني أن يصير معنى هذا القول وصفا لازما لقلبه غالبا عليه فأما التوحيد فهو الأصل والقول فيه يطول ، وهو من علم المكاشفة ، ولكن بعض علوم المكاشفات متعلق بالأعمال بواسطة الأحوال ولا يتم علم المعاملة إلا بها فإذا لا نتعرض إلا للقدر الذي يتعلق بالمعاملة وإلا فالتوحيد هو البحر الخضم الذي لا ساحل له فنقول . أصل التوكل
وينقسم : إلى لب وإلى لب اللب وإلى قشر وإلى قش ، القشر . للتوحيد أربع مراتب
ولنمثل ذلك تقريبا إلى الأفهام الضعيفة بالجوز في قشرته العليا فإن له قشرتين وله لب وللب دهن هو لب اللب ، فالرتبة الأولى من التوحيد هي أن يقول الإنسان بلسانه لا إله إلا الله وقلبه غافل عنه أو منكر له كتوحيد المنافقين .
والثانية : أن يصدق بمعنى اللفظ قلبه كما صدق به عموم المسلمين وهو اعتقاد العوام .
والثالثة : أن يشاهد ذلك بطريق الكشف بواسطة نور الحق وهو مقام المقربين ، وذلك بأن يرى أشياء كثيرة ولكن يراها على كثرتها صادرة عن الواحد القهار .
والرابعة : أن لا يرى في الوجود إلا واحدا وهي مشاهدة الصديقين الصوفية الفناء في التوحيد لأنه من حيث لا يرى إلا واحدا فلا يرى نفسه أيضا وإذا لم ير نفسه لكونه مستغرقا بالتوحيد كان فانيا عن نفسه في توحيده بمعنى أنه فني عن رؤية نفسه والخلق فالأول موحد بمجرد اللسان ويعصم ذلك صاحبه في الدنيا عن السيف والسنان . وتسميه
والثاني : موحد بمعنى أنه معتقد بقلبه مفهوم لفظه وقلبه خال عن التكذيب بما انعقد عليه قلبه وهو عقدة على القلب ليس فيه انشراح وانفساح ولكنه يحفظ صاحبه من العذاب في الآخرة إن توفي عليه ولم تضعف .
بالمعاصي عقدته ولهذا العقد حيل يقصد بها تضعيفه وتحليله تسمى بدعة وله حيل يقصد بها دفع حيلة التحليل والتضعيف ويقصد بها أيضا إحكام هذه العقدة وشدها على القلب وتسمى كلاما والعارف به يسمى متكلما وهو في مقابلة المبتدع ومقصده دفع المبتدع عن تحليل هذه العقدة عن قلوب العوام وقد يخص المتكلم باسم الموحد من حيث إنه يحمي بكلامه مفهوم لفظ التوحيد على قلوب العوام حتى لا تنحل عقدته .
والثالث : موحد بمعنى أنه لم يشاهد إلا فاعلا واحدا إذا انكشف له الحق كما هو عليه .
ولا يرى فاعلا بالحقيقة إلا واحدا وقد انكشفت له الحقيقة كما هي عليه لأنه كلف قلبه أن يعقد على مفهوم لفظ الحقيقة فإن تلك رتبة العوام والمتكلمين إذ لم يفارق المتكلم العامي في الاعتقاد بل في صنعة تلفيق الكلام الذي به حيل المبتدع عن تحليل هذه العقدة .
والرابع : موحد بمعنى أنه لم يحضر في شهوده غير الواحد فلا يرى الكل من حيث إنه كثير بل من حيث إنه واحد وهذه هي الغاية القصوى في التوحيد فالأول كالقشرة العليا من الجوز ، والثاني كالقشرة السفلى والثالث كاللب والرابع كالدهن المستخرج من اللب .
وكما أن القشرة العليا من الجوز لا خير فيها بل إن أكل فهو مر المذاق وإن نظر إلى باطنه فهو كريه المنظر وإن اتخذ حطبا أطفأ النار وأكثر الدخان وإن ترك في البيت ضيق المكان فلا يصلح إلا أن يترك مدة على الجوز للصون ثم يرمى به عنه فكذلك التوحيد بمجرد اللسان دون التصديق بالقلب عديم الجدوى كثير الضرر مذموم الظاهر والباطن لكنه ينفع مدة في حفظ القشرة السفلى إلى وقت الموت والقشرة السفلى هي القلب والبدن .
وتوحيد المنافق يصون بدنه عن سيف الغزاة فإنهم لم يؤمروا بشق القلوب والسيف إنما يصيب جسم البدن وهو القشرة وإنما يتجرد عنه بالموت فلا يبقى لتوحيده فائدة بعده وكما أن القشرة السفلى ظاهرة النفع بالإضافة إلى القشرة العليا فإنها تصون اللب وتحرسه عن الفساد عند الادخار وإذا فصلت أمكن أن ينتفع بها حطبا لكنها نازلة القدر بالإضافة إلى اللب وكذلك مجرد الاعتقاد من غير كشف كثير النفع بالإضافة إلى مجرد نطق اللسان ناقص القدر بالإضافة إلى الكشف والمشاهدة التي تحصل بانشراح الصدر وانفساحه وإشراق نور الحق فيه إذ ذاك الشرح هو المراد بقوله تعالى : فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام وبقوله عز وجل: أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه وكما أن اللب نفيس في نفسه بالإضافة إلى القشر وكله المقصود ولكنه لا يخلو عن شوب عصارة بالإضافة إلى الدهن المستخرج منه فكذلك توحيد الفعل مقصد عال للسالكين لكنه لا يخلو عن شوب ملاحظة الغير والالتفات إلى الكثرة بالإضافة إلى من لا يشاهد سوى الواحد الحق .