بشرط أن لا يفهم من الاختيار إرادة بعد تحير وتردد فإن ذلك في حقه محال وجميع الألفاظ المذكورة في اللغات لا يمكن أن تستعمل في حق الله تعالى إلا على نوع من الاستعارة والتجوز وذكر ذلك لا يليق بهذا العلم ويطول القول فيه . وفعل الله تعالى يسمى اختيارا
فإن قلت : فهل تقول إن فإن قلت ذلك فقد حكمت بحدوث شيء لا من قدرة الله تعالى وإن أبيت ذلك فما معنى ترتب البعض من هذا على البعض ، فاعلم أن القول بأن بعض ذلك حدث عن بعض جهل محض سواء عبر عنه بالتولد أو بغيره بل حوالة جميع ذلك على معنى الذي يعبر عنه بالقدرة الأزلية وهو الأصل الذي لم يقف كافة الخلق عليه إلا الراسخون في العلم ، فإنهم وقفوا على كنه معناه ، والكافة وقفوا على مجرد لفظه مع نوع تشبيه بقدرتنا وهو بعيد عن الحق ، وبيان ذلك يطول ولكن بعض المقدورات مترتب على البعض في الحدوث ترتب المشروط على الشرط ، فلا تصدر من القدرة الأزلية إرادة إلا بعد علم ولا علم إلا بعد حياة ولا حياة إلا بعد محل الحياة وكما لا يجوز أن يقال الحياة تحصل من الجسم الذي هو شرط الحياة فكذلك في سائر درجات الترتيب ، ولكن بعض الشروط ربما ظهرت للعامة وبعضها لم يظهر إلا للخواص المكاشفين بنور الحق ، وإلا فلا يتقدم متقدم ولا يتأخر متأخر إلا بالحق واللزوم وكذلك جميع أفعال الله تعالى ، ولولا ذلك لكان التقديم والتأخير عبثا يضاهي فعل المجانين تعالى الله عن قول الجاهلين علوا كبيرا ، وإلى هذا أشار قوله تعالى : العلم ولد الإرادة والإرادة ولدت القدرة والقدرة ولدت الحركة وأن كل متأخر حدث من المتقدم وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون وقوله تعالى وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق فكل ما بين السماء والأرض حادث على ترتيب واجب وحق لازم لا يتصور أن يكون إلا كما حدث وعلى هذا الترتيب الذي وجد فما تأخر متأخر إلا لانتظار شرطه ، والمشروط قبل الشرط محال والمحال لا يوصف بكونه مقدورا فلا يتأخر العلم عن النطفة إلا لفقد شرط الحياة ولا تتأخر عنها الإرادة بعد العلم إلا لفقد شرط العلم ، وكل ذلك منهاج الواجب وترتيب الحق ليس في شيء من ذلك لعب واتفاق بل كل ذلك بحكمة وتدبير وتفهيم ذلك عسير ، ولكنا نضرب لتوقف المقدور مع وجود القدرة على وجود الشرط مثالا يقرب مبادئ الحق من الأفهام الضعيفة وذلك بأن نقدر إنسانا محدثا قد انغمس في الماء إلى رقبته فالحدث لا يرتفع عن أعضائه وإن كان الماء هو الرافع وهو ملاق له فقدر القدرة الأزلية حاضرة ملاقية للمقدورات متعلقة بها ملاقاة الماء للأعضاء ، ولكن لا يحصل بها المقدور كما لا يحصل رفع الحدث بالماء انتظارا للشرط وهو غسل الوجه ، فإذا وضع الواقف في الماء وجهه على الماء عمل الماء في سائر أعضائه وارتفع الحدث فربما يظن الجاهل أن الحدث ارتفع عن اليدين برفعه عن الوجه ؛ لأنه حدث عقيبه ، إذ يقول كان الماء ملاقيا ولم يكن رافعا والماء لم يتغير عما كان فكيف حصل منه ما لم يحصل من قبل ، بل حصل ارتفاع الحدث عن اليدين عند غسل الوجه فإذا ، غسل الوجه هو الرافع للحدث عن اليدين وهو جهل يضاهي ظن من يظن أن الحركة تحصل بالقدرة والقدرة بالإرادة والإرادة بالعلم . وكل ذلك خطأ ، بل عند ارتفاع الحدث عن الوجه ارتفع الحدث عن اليد بالماء الملاقي لها لا بغسل الوجه ، والماء لم يتغير واليد لم تتغير ولم يحدث فيهما شيء ، ولكن حدث وجود الشرط فظهر أثر العلة ، فهكذا ينبغي أن تفهم صدور المقدورات عن القدرة الأزلية مع أن القدرة قديمة والمقدورات حادثة ، وهذا قرع باب آخر لعالم آخر من عوالم المكاشفات ، فلنترك جميع ذلك فإن مقصودنا التنبيه على طريق التوحيد في الفعل فإن الفاعل بالحقيقة واحد فهو المخوف والمرجو وعليه التوكل والاعتماد ولم نقدر على أن نذكر من بحار التوحيد إلا قطرة من بحر المقام الثالث من مقامات التوحيد ، واستيفاء ذلك في عمر نوح محال كاستيفاء ماء البحر بأخذ القطرات منه ، وكل ذلك ينطوي تحت وما أخف مؤنته على اللسان وما أسهل اعتقاد مفهوم لفظه على القلب وما أعز حقيقته ولبه عند العلماء الراسخين في العلم فكيف عند غيرهم . قول لا إله إلا الله