الثالثة وهي أعلاها لا يفارقه إلا في أنه يرى نفسه ميتا تحركه القدرة الأزلية ، كما تحرك يد الغاسل الميت وهو الذي قوي يقينه بأنه مجري للحركة والقدرة والإرادة والعلم ، وسائر الصفات وأن كلا ، يحدث جبرا فيكون بائنا عن الانتظار لما يجري عليه ويفارق الصبي ، فإن الصبي يفزع إلى أمه ويصيح ويتعلق بذيلها ويعدو خلفها بل هو مثل صبي علم أنه وإن لم يزعق بأمه فالأم تطلبه ، وأنه وإن لم يتعلق بذيل أمه فالأم تحمله ، وإن لم يسألها اللبن فالأم تفاتحه وتسقيه وهذا المقام في التوكل يثمر ترك الدعاء والسؤال منه ثقة بكرمه وعنايته ، وأنه يعطي ابتداء أفضل مما يسأل ، فكم من نعمة ابتدأها قبل السؤال والدعاء وبغير ، الاستحقاق والمقام الثاني لا يقتضي ترك الدعاء والسؤال منه ، وإنما يقتضي ترك السؤال من غيره فقط . أن يكون بين يدي الله تعالى في حركاته وسكناته مثل الميت بين يدي الغاسل
فإن قلت : فهذه الأحوال هل يتصور وجودها ؟ فاعلم أن ذلك ليس بمحال ولكنه عزيز نادر والمقام الثاني والثالث أعزها والأول أقرب إلى الإمكان ، ثم إذا وجد الثالث والثاني فدوامه أبعد منه ، بل يكاد لا يكون المقام الثالث في دوامه إلا كصفرة الوجل ، فإن انبساط القلب إلى ملاحظة الحول والقوة والأسباب طبع وانقباضه عارض كما إن انبساط الدم إلى جميع الأطراف طبع ، وانقباضه عارض والوجل عبارة عن انقباض الدم عن ظاهر البشرة إلى الباطن حتى تنمحي عن ظاهر البشرة الحمرة التي كانت ترى من وراء الرقيق من ستر البشرة ، فإن البشرة ستر رقيق تتراءى من ورائه حمرة الدم وانقباضه ، يوجب الصفرة ، وذلك لا يدوم ، وكذا لا يدوم ، وأما المقام الثاني فيشبه صفرة المحموم فإنه قد يدوم يوما ويومين ، والأول يشبه صفرة مريض استحكم مرضه فلا يبعد أن يدوم ، ولا يبعد أن يزول . انقباض القلب بالكلية عن ملاحظة الحول والقوة وسائر الأسباب الظاهرة