. بيان أعمال المتوكلين
اعلم أن العلم يورث الحال ، والحال يثمر الأعمال وقد والسقوط على الأرض كالخرقة الملقاة ، وكاللحم على الوضم ، وهذا ظن الجهال ، فإن ذلك حرام في الشرع ، والشرع قد أثنى على المتوكلين فكيف ينال مقام من مقامات الدين بمحظورات الدين بل نكشف الغطاء عنه ونقول : إنما يظهر تأثير التوكل في حركة العبد وسعيه بعلمه إلى مقاصده وسعي العبد باختياره إما أن يكون لأجل جلب نافع هو ، مفقود عنده كالكسب ، أو لحفظ نافع هو موجود عنده كالادخار ، أو لدفع ضار لم ينزل به ، كدفع الصائل والسارق والسباع ، أو لإزالة ضار قد نزل به كالتداوي من المرض ، فمقصود حركات العبد لا تعدو : هذه الفنون الأربعة ، وهو جلب النافع ، أو حفظه ، أو دفع الضار ، أو قطعه ، فلنذكر شروط التوكل ودرجاته في كل واحد منها مقرونا بشواهد الشرع الفن الأول في جلب النافع فنقول فيه : الأسباب التي بها يجلب النافع على ثلاث درجات : مقطوع به ، ومظنون ظنا يوثق به ، وموهوم وهما لا تثق النفس به ثقة تامة ، ولا تطمئن إليه ، الدرجة الأولى : المقطوع به ، وذلك مثل الأسباب التي ارتبطت المسببات بها بتقدير الله ومشيئته ، ارتباطا مطردا لا يختلف كما أن الطعام إذا كان موضوعا بين يديك وأنت جائع محتاج ولكنك لست تمد اليد إليه ، وتقول : أنا متوكل ، وشرط التوكل ترك السعي ومد اليد إليه سعي وحركة ، وكذلك مضغه بالأسنان ، وابتلاعه بإطباق أعالي الحنك على أسافله فهذا جنون محض ، وليس من التوكل في شيء ، فإنك إن انتظرت أن يخلق الله تعالى فيك شبعا دون الخبز ، أو يخلق في الخبز حركة إليك ، أو يسخر ملكا ليمضغه لك ، ويوصله إلى معدتك فقد جهلت سنة الله تعالى وكذلك لو لم تزرع الأرض وطمعت في أن يخلق الله تعالى نباتا من غير بذر أو تلد زوجتك من غير وقاع ، كما ولدت مريم عليها السلام فكل ذلك جنون وأمثال هذا مما يكثر ولا يمكن إحصاؤه أليس ، التوكل في هذا المقام بالعمل ، بل بالحال والعلم ، أما العلم فهو أن تعلم أن الله تعالى خلق الطعام واليد والأسنان وقوة الحركة ، وأنه هو الذي يطعمك ويسقيك ، وأما الحال فهو أن يكون سكون قلبك واعتمادك على فعل الله تعالى لا على اليد والطعام ، وكيف تعتمد على صحة يدك ، وربما تجف في الحال وتفلج وكيف تعول على قدرتك ، وربما يطرأ عليك في الحال ما يزيل عقلك ، ويبطل قوة حركتك وكيف تعول على حضور الطعام ، وربما يسلط الله تعالى . يظن أن معنى التوكل ترك الكسب بالبدن ، وترك التدبير بالقلب
من يغلبك عليه أو يبعث حية تزعجك عن مكانك ، وتفرق بينك وبين طعامك وإذا احتمل أمثال ذلك ، ولم يكن لها علاج إلا بفضل الله تعالى فبذلك فلتفرح ، وعليه فلتعول فإذا كان هذا حاله وعلمه ، فليمد اليد فإنه متوكل .