الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
واعلم أن الجلوس في رباطات الصوفية مع معلوم بعيد من التوكل فإن لم يكن معلوم ووقف وأمر الخادم بالخروج للطلب لم يصح معه التوكل إلا على ضعف ولكن يقوى بالحال والعلم كتوكل المكتسب وإن لم يسألوا بل قنعوا بما يحمل .

إليهم فهذا أقوى في توكلهم لكنه بعد اشتهار القوم بذلك فقد صار لهم سوقا ، فهو كدخول السوق : ولا يكون داخل السوق متوكلا إلا بشروط كثيرة كما سبق .

فإن قلت : فما الأفضل أن يقعد في بيته ، أو يخرج ويكتسب ؟ فاعلم أنه إن كان يتفرغ بترك الكسب لفكر وذكر وإخلاص واستغراق وقت بالعبادة وكان الكسب يشوش عليه ذلك وهو مع هذا لا تستشرف نفسه إلى الناس في انتظار من يدخل عليه فيحمل إليه شيئا بل يكون قوي القلب في الصبر والاتكال على الله تعالى فالمقصود ، له أولى وإن كان يضطرب قلبه في البيت ، ويستشرف إلى الناس فالكسب أولى ؛ لأن استشراف القلب إلى الناس سؤال بالقلب وتركه أهم من ترك الكسب .

التالي السابق


(واعلم أن الجلوس في رباطات الصوفية) وزوايا المساجد (مع معلوم) معين (بعيد من) وصف (التوكل فإن لم يكن) هناك (معلوم) معين (و) لا (وقف) حبس عليها (وأمر الخادم بالخروج للطلب) والسؤال (لم يصح معه التوكل إلا على ضعف) لاستناد القلب في الجملة إلى ما يأتي به الخادم (ولكن يقوى بالحال والعلم) بعدم الركون وإسقاط النظر عن الوسائط، فيكون (كتوكل المكتسب) ، كما سبق (وإن لم يسألوا) بأنفسهم، ولا بواسطة الخادم، (بل قنعوا بما يحمل إليهم) من حيث لم يحتسبوا (فهذا أقوى في توكلهم لكنه بعد اشتهار القوم بذلك فقد صار لهم سوقا، فهو كدخول السوق) أي: في حكمهم (ولا يكون داخلا لسوق متوكلا إلا بشروط كثيرة) ، كما سبق قريبا في كتاب الكسب (فإن قلت: فما الأفضل) في حق السالك (أن يقعد في بيته، أو يخرج) إلى السوق (ويكتسب؟ فاعلم أنه إن كان) ممن (يتفرغ فترك الكسب لفكر وذكر) ومراقبة (وإخلاص واستغراق وقت بالعبادة) ما بين صلاة وقراءة، (وكان الكسب يشوش عليه ذلك) ويفرق وقته وهمته، (وهو مع هذا تستشرف نفسه إلى الناس في انتظار من يدخل) إلى البيت (فيحمل إليه شيئا) من الدنيا، (بل يكون قوي القلب في الصبر) على شدائده (والاتكال على الله تعالى، فالقعود له) بهذه الشروط (أولى) من الخروج والكسب، فهذه شروط خمسة: الأول: تفرغ القلب للذكر والفكر، وهذا هو الأصل، والثاني: كون المكسب مما يمنع من هذا التفرغ، فإن كان لا يمنع فالخروج أولى، الثالث: عدم تشوف النفس إلى ما يأتي بواسطة الناس، فإذا تشوفت فالخروج أولى، الرابع: قوة القلب في الصبر، أي حتى على الموت على هذه الحالة إن لم يأته رزقه، فإذا لم يكن عنده الصبر على ذلك فالخروج أولى، الخامس: قوة القلب على الاتكال على الله تعالى، فلو جرى ما جرى لا يتحرك قلبه في باطنه أصلا، وهذا الشرط روح الأربعة المذكورة، وقد فصل المصنف ما ذكرنا، فقال، (وإن كان يضطرب قلبه في البيت، ويستشرف إلى الناس) بما يأتي منهم (فالكسب أولى؛ لأن) اضطراب القلب يشعر عن عدم قوة قلبه على الاتكال على مولاه و (استشراف القلب إلى الناس سؤال بالقلب) ، وهو عندهم أشد من سؤال اللسان (وتركه أهم من ترك الكسب) ، وشواهد ما ذكره المصنف [ ص: 483 ] في كلام القوم، ففي القوت قال بعض المتوكلين: من فقد الأسباب فضعف قلبه، أو كان وجودها أسكن لقلبه من عدمها لم يصح له القعود عن المكاسب؛ لأن فيه انتظارا لغير الله تعالى، وقال بعض العلماء: من طرقته فاقة سبعة أيام فتصور قلبه طمعا في خلق، أو تشرفا إلى عبد، فالسوق أفضل من المسجد، وقال أبو سليمان الداراني: لا خير في عبد لزم القعود في البيت، وقلبه معلق بقرع الباب حتى يطرق بسبب، وقال بعض علمائنا: إذا استوى عنده وجود السبب وعدمه، وكان قلبه ساكنا مطمئنا عند العدم لم يشغله ذلك عن الله، ولم يتفرق همه، فترك الكسب والقعود لهذا أفضل لشغله بحاله وتزوده لمعاده، وقد صح له مقام في التوكل وقال سهل: وقد سئل: متى يصح للعبد التوكل، فقال: إذا دخل عليه الضر في جسده، والنقص في ماله فلم يلتف إليه، ولم يحزن عليه شغلا بحاله، ونظر إلى قيام الله عليه .

وقال الخواص في كتاب التوكل: لا ينبغي للصوفي أن يتعرض للقعود عن الكسب، إلا أن يكون مطلوبا قد أغنته الحال عن المكاسب، وأما ما كانت الحاجات فيه قائمة، ولم يقع له عزوف يحول بينه وبين التكلف فالعمل أولى به، والكسب أجل له وأبلغ؛ لأن القعود لا يصلح لمن لم يستغن عن التكلف، يعني أن يكون قد كفي بالكفاية القاطعة من قلبه عن التكلف الظاهر من جوارحه، وأن تكون حاله قوية تحمله بالصبر والرضا، لا يضعف إلى تطلع وتشرف بقول، فمعلوم هذا من كسبه الذي أحل به أفضل له من طمعه في غيره الذي كره له هذا، كله كلام الخواص، وقال في موضع آخر من الكتاب المذكور: ولم يؤت المريدون في إيثار الخمول ولزوم الباب وفراغ القلب وخوف فوت الوصول، والتارك للتكسب والتصرف في الأسواق إذا كان في أدنى كفاية وأعين بالصبر والقناعة في مثل زماننا هذا أفضل وأتم من المكتسب إذا خاف أن لا ينال المعيشة إلا بمعصية الله تعالى من دخول في شبهة أو خيانة لإخوانه المسلمين، ولأنه قد تعذر القيام بشرط العلم مع مباشرة الأسباب وكثرة دخول الآفات والفساد في الاكتساب، فترك مباشرة أهل الأسواق ومخالطتهم على هذا الوصف المكروه أقرب إلى السلامة لبعده من رؤية الأسباب وفقد مباشرتها؛ لأن الحكم متعلق بالرؤية، ومثل الحرام مثل المنكر إذا لم تره سقط عنك حكمه، وليس الخبر كالمعاينة، ولا المجاورة كالمباشرة، ولا الاستتار كالإظهار، ولا المعاين كالمخبر، والتكسب ليس بفرض، وقد يفترض بأحد معنيين بوجود العيال، مع عدم كفايتهم عن وجه من الوجوه، أو بأن ينقطع من عدمه عن فرض، ويضعف عنه مع فقد ما يقام به الفرض مما لا بد منه، ولقد كان أبو معاذ رحمه الله يقول: ترك المكاسب معا لحاجة إليها كسل، والكسب مع الاستغناء عنه كلفة، وقال في موضع آخر من كتابه: وبعض العارفين يفضلون من لا معلوم له على من له معلوم وهؤلاء يرون ترك التكسب أفضل، والسكون عن التحرك أعلى؛ لأن ذلك معلوم، ويعد هؤلاء سكون القلب مع وجود المعلوم علة، ولكن إذا سكن قلبه مع غير معلوم، واجتمع همه، وانقطع طمعه في حال المعدوم، فهذا هو المقام ولعمري التحقيق أن الحركة في طلب المضمون للمخصوص عقوبة فقد سكون القلب إلى الرب، كما أن ترك الحركة في أعمال البر والقربات عقوبة سكون النفس إلى حظوظ الشهوات، والعدول من القول في تفصيل ترك التكسب وفعله، وفقد المعلوم ووجده أن العبد لا يفضل بفقد الغنى، ووجد الفقر، ولا يشرف بالقعود عن الحركة من غير إقعاد، ولا يعلو بالتحرك إلى الأسباب بغير إيجاد، وإنما يوصف في ذينك بالفقر أو الإباحة لكن يفضل بحاله من مقامه من زهد أو رضا أو صبر وتوكل، أو اقتطاع لخدمة، أو إقامة بشغل متصل بصدق معاملة، فبهذه المعاني يقع التفضيل عند العلماء، فإن كان ذو المعلوم والتصرف أحسن معرفة وأقوى يقينا فضل على من لا معلوم له ممن نقصت معرفته، ولا يكون سكون القلب وطمأنينة النفس أيضا مع وجود المعلوم علة في الحال إذا ثبت المقام وصح القصد وحسن التصرف والعقد، ولكن لا يكون مقاما يرفع به ولا حالا يفضل فيه عند طائفة من العارفين إلا أن الطمع في الخلق وتشبث القلب مع وجود معلوم، أو الكفاية نقصان عند الكل، وقطع الطمع في الخلق، وفقد الشرف إلى معتاد منهم، أو مألوف بهم واجتماع القلب مع العدم، وفقد المعلوم أفضل وأعلى عند الجماعة، فأما سكون القلب واجتماع الهم [ ص: 484 ] وفقد الاستشراف إلى الخلق مع العيال وثبوت الأحكام فهو أفضل وأشرف، وهذا حال الأقوياء، وطريق الأنبياء اتفقوا على ذلك، وأما اضطراب القلب، وتفرقة الهم مع وجود العيال، فإن كان لأجلهم والقيام بحكم الله فيهم فلا نقص فيه، وقد يؤجر عليه، وأما شتات الهم، وتفرق القلب، ووجد الاهتمام في حال الوحدة للمنفرد، فنصيب من الرغبة موفور، وصاحبه فيه غير معذور، وقد يكون مأزورا، فهذه النصوص كلها شواهد لسياق المصنف .




الخدمات العلمية