الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وأما بيان أن الادخار مع فراغ القلب عن المدخر ليس من ضرورته بطلان التوكل ، فيشهد له ما روي عن بشر قال الحسين المغازلي من أصحابه كنت عنده ضحوة من النهار ، فدخل عليه رجل كهل أسمر خفيف العارضين ، فقام إليه بشر ، قال وما رأيته قام لأحد غيره ، قال ودفع إلي كفا من دراهم ، وقال : اشتر لنا من أطيب ما تقدر عليه من الطعام الطيب وما قال لي قط .

مثل ذلك ، قال : فجئت بالطعام فوضعته فأكل معه ، وما رأيته أكل مع غيره ، قال : فأكلنا حاجتنا وبقي من الطعام شيء كثير ، فأخذه الرجل وجمعه في ثوبه وحمله معه وانصرف فعجبت من ذلك وكرهته له فقال لي بشر لعلك أنكرت فعله قلت : نعم أخذ بقية الطعام من غير إذن فقال ذاك أخونا فتح الموصلي ، زارنا اليوم من الموصل فإنما ، أراد أن يعلمنا أن التوكل إذا صح لم يضر معه الادخار .

التالي السابق


(وأما بيان أن الادخار مع فراغ القلب عن المدخر ليس من ضرورية بطلان التوكل، فيشهد له ما روي عن) أبي نصر (بشر) بن الحارث الحافي -قدس سره- (قال الحسين المغازلي من أصحابه) نسب إلى عمل المغازل، قال: (كنت عنده ضحوة من النهار، فدخل عليه رجل كهل أسمر خفيف العارضين، فقام إليه بشر، قال) الحسين (وما رأيته قام لأحد غيره، قال ودفع إلي كفا من دراهم، وقال: اشتر لنا من أطيب ما تقدر عليه من الطعام الطيب) قال: (وما قال لي قط مثل ذلك، قال: فجئت بالطعام فوضعته) بين يديه (فأكل معه، وما رأيته أكل مع غيره، قال: فأكلنا حاجتنا وبقي من الطعام شيء كثير، فأخذه الرجل وجمعه في ثوبه) وجعله تحت يديه، (وحمله معه وانصرف) قال: (فعجبت من) فعله (ذلك وكرهته له) ؛ إذ لم يأمره بذلك، ولا هو استأذنه فيه، (فقال لي بشر) بعد وقت (لعلك أنكرت فعله) ذلك (قلت: نعم أخذ بقية الطعام من غير إذن فقال) تعرفه، قلت: لا، قال (ذلك أخونا فتح) بن شخرف (الموصلي، زارنا اليوم من الموصل، وإنما أراد أن يعلمنا أن التوكل إذا صح لم يضر معه الادخار) ، هكذا نقله صاحب القوت .

ومما يدلك على أن الادخار يتسع ويضيق على قدر مشاهدات العارفين ما نقله صاحب القوت قال: وحدثني بعض الصوفيين أن بعض الأشياخ لم يكن يبيت شيئا لغد، وكان مهما فتح له شيء من النهار أخرجه قبل الليل 7 فقلت: أخرجه قبل الصبح، ثم قلت: هي ليلة، فإذا أصبحت أخرجته قال: فجعلته في وسطي ونمت، فرأيت في المنام كان في وسطي ثلاثة زنانير قال: فاغتممت، وجعلت أحلها، وأتعجب من ذلك فقال لي قائل: هذه الثلاثة دراهم التي ادخرتها قال: فانتهيت فزعا، فقمت فدفعتها في الوقت إلى بعض الفقراء، قال: وحدثني بعض الأشياخ عن بعض الصوفيين أنه كذلك، كان يخرج كل ما فتح له إلى إخوانه الفقراء، ولا يدخر لنفسه شيئا، قال: ففتح لي مرة بدينار، وكان علي دينار دينا، فجعلت أؤمل بين أن أحبسه لقضاء ديني، وبين أن أخرجه إلى ما عودت من خليقتي، قال: فقوي علي شاهد العلم، فقلت: إمساكه للدين أولى؛ لأنه قد استحق علي، قال: فلم أنفقه على إخواني، وكان ينتاب ويستضاف قال: فضرب على ضرس من أضراسي تلك الليلة، فلم أنم، فأشير علي بقلعه فقلعته، ثم قال: خطر بقلبي إخراج الدينار، ثم قلت: الدين أوجب، فحبسته قال: فضرب علي في الليلة الثانية ضرس آخر أسهرني، قال: فنزعته، ثم قال: ذكرت شأن الدينار، فقلت: لعلي عوقبت بحبسه قال: فأخرجته قبل الليل، قال: فهتف بي هاتف لو لم تخرجه لقلعنا أسنانك ضرسا ضرسا حتى لا يبقى في فيك ضرس واحد، فهذه مطالبات الخصوص لعلو مقاماتهم مخصوصون به [ ص: 506 ] مشدد عليهم فيه دون غيرهم، قال: وكذلك بلغني أن بنانا الحمال لم يكن يدخر شيئا لغد، ولا يبيته من النهار، فحدثني بعض الأشياخ عمن رآه، وقد دفع إليه بمكة كيسا فيه خمسمائة درهم، قال: فصره صررا وجعلها في ركوته، ثم طاف بها على دور حول المسجد الحرام، فجعل يلقيها إلى الفقراء صرة صرة، وهو يمشي حتى أنفذها، فقلت: لأنظرن من أين فطره هذه الليلة؛ إذ لم يترك لنفسه شيئا، فلما كان بين العشاءين طاف في الوادي طوفة، ومد يده، وقال: ثم شيء لله فجعل في كفه وسعه، فعدل إلى باب الصفا، فقعد فأكله وشرب من ماء زمزم، ودخل الطواف، قال: فسألته عن ذلك من الغد، فقال: ما حدثت نفسي أن أعيش إلى الليل ولو قوي في قلبي ذلك لحبست منه القوت، فهذا طريق هؤلاء سلكوه بزاده بتقوي مثلهم؛ إذ جعلت قلوبهم أوعية لمراده، وحدثت عن بعض العارفين قال: رأيت في النوم كأن القيامة قد قامت، وكان الناس يساقون زمرة زمرة إلى الجنة على طبقات، فنظرت إلى طبقة أحسن الناس هيئة وأعلاهم طريقا، وأسرعهم سبقا، فقلت: هذه أفضلهم أكون فيها، فذهبت لأخطو إليهم، وأدخل معهم في طريقهم، فإذا بملائكة حولهم قد منعوني، وقالوا: قف مكانك حتى يجيء أصحابك، فتدخل معهم، فقلت: تمنعوني مع هؤلاء السابقين، فقالوا: هذا طريق لا يسلكه إلا من لم يكن له إلا قميص واحد، ومن كل شيء واحد، وأنت لك قميصان، ومن أشياء قال: فانتبهت باكيا حزينا، فجعلت على نفسي أن لا أملك من كل شيء إلا واحدا، والله أعلم .




الخدمات العلمية