الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وفيه ، أسرار لا يقف عليها من لم ينته إليها .

فإن قلت وهل : من علامة أعلم بها أني قد وصلت إليها ، فأقول الواصل لا يحتاج إلى طلب العلامات ، ولكن من العلامات على ذلك المقام السابقة عليه أن يسخر لك كلب هو معك في إهابك ، يسمى الغضب فلا يزال يعضك ويعض غيرك فإن سخر لك هذا الكلب بحيث إذا هيج وأشلى ، لم يستشل إلا بإشارتك ، وكان مسخرا لك فربما ترتفع درجتك إلى أن يسخر لك الأسد الذي هو ملك السباع وكلب دارك أولى أن يكون مسخرا لك من كلب البوادي ، وكلب إهابك أولى بأن يتسخر من كلب دارك ، فإذا لم يسخر لك الكلب الباطن فلا تطمع في استسخار الكلب الظاهر .

فإن قلت : فإذا أخذ المتوكل سلاحه حذرا من العدو ، وأغلق بابه حذرا من اللص ، وعقل بعيره حذرا من أن ينطلق فبأي اعتبار يكون متوكلا فأقول : يكون متوكلا بالعلم والحال ، فأما العلم فهو أن يعلم أن اللص إن اندفع لم يندفع بكفايته في إغلاق الباب ، بل لم يندفع إلا بدفع الله تعالى إياه فكم من باب يغلق ولا ينفع وكم من بعير يعقل ويموت ، أو يفلت وكم من آخذ سلاحه يقتل ، أو يغلب فلا تتكل على هذه الأسباب أصلا ، بل على مسبب الأسباب كما ضربنا المثل في الوكيل في الخصومة ، فإنه إن حضر وأحضر السجل فلا يتكل على نفسه وسجله ، بل يتكل على كفاية الوكيل وقوته وأما الحال فهو أن يكون راضيا بما يقضي الله تعالى به في بيته ونفسه ، ويقول : اللهم إن سلطت علي ما في البيت من يأخذه فهو في سبيلك ، وأنا راض بحكمك ، فإني لا أدري أن ما أعطيتني هبة فلا تسترجعها ، أو عارية ووديعة فتستردها ، ولا أدري أنه رزقي ، أو سبقت مشيئتك في الأزل بأنه رزق غيري ، وكيفما قضيت فأنا راض به وما أغلقت الباب تحصنا من قضائك وتسخطا له ، بل جريا على مقتضى سنتك في ترتيب الأسباب فلا ثقة إلا بك يا مسبب الأسباب ، فإذا كان هذا حاله ، وذلك الذي ذكرناه علمه لم يخرج عن حدود التوكل بعقل البعير ، وأخذ السلاح ، وإغلاق الباب ، ثم إذا عاد فوجد متاعه في البيت فينبغي أن يكون ذلك عنده نعمة جديدة من الله تعالى ، وإن لم يجده ، بل وجده مسروقا نظر إلى قلبه ، فإن وجده راضيا ، أو فرحا بذلك عالما أنه ما أخذ الله تعالى ذلك منه إلا ليزيد رزقه في الآخرة فقد صح مقامه في التوكل ، وظهر له صدقه وإن تألم قلبه به ، ووجد قوة الصبر فقد بان له أنه ما كان صادقا في دعوى التوكل ؛ لأن التوكل مقام بعد الزهد ولا يصح الزهد إلا ممن لا يتأسف على ما فات من الدنيا ، ولا يفرح بما يأتي ، بل يكون على العكس منه فكيف يصح له التوكل نعم قد يصح له مقام الصبر إن أخفاه ولم يظهر شكواه ، ولم يكثر سعيه في الطلب والتجسس وإن لم يقدر على ذلك حتى تأذى بقلبه ، وأظهر الشكوى بلسانه ، واستقصى الطلب ببدنه ، فقد كانت السرقة مزيدا له في ذنبه من حيث إنه ظهر له قصوره عن جميع المقامات وكذبه في جميع الدعاوي فبعد هذا ينبغي أن يجتهد حتى لا يصدق نفسه في دعاويها ولا يتدلى بحبل غرورها ، فإنها خداعة أمارة بالسوء مدعية للخير .

فإن قلت فكيف يكون للمتوكل مال حتى يؤخذ فأقول المتوكل لا يخلو بيته من متاع كقصعة يأكل فيها ، وكوز يشرب منه ، وإناء يتوضأ منه ، وجراب يحفظ به زاده ، وعصا يدفع بها عدوه ، وغير ذلك من ضرورات المعيشة من أثاث البيت وقد يدخل في يده مال وهو يمسكه ليجد محتاجا فيصرفه إليه ، فلا يكون ادخاره على هذه النية مبطلا لتوكله .

التالي السابق



الخدمات العلمية