الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
فإذا معنى التوكل مع التداوي التوكل بالعلم والحال ، كما سبق في فنون الأعمال الدافعة للضرر ، الجالبة للنفع ، فأما ترك التداوي رأسا فليس شرطا فيه .

فإن قلت : فالكي أيضا من الأسباب الظاهرة النفع فأقول : ليس كذلك إذ الأسباب الظاهرة مثل الفصد والحجامة وشرب المسهل ، وسقي المبردات للمحرور وأما الكي فلو كان مثلها في الظهور لما خلت البلاد الكثيرة عنه ، وقلما يعتاد الكي في أكثر البلاد ، وإنما ذلك عادة بعض الأتراك والأعراب فهذا من الأسباب الموهومة كالرقى ، إلا أنه يتميز عنها بأمر ، وهو أنه احتراق بالنار في الحال ، مع الاستغناء عنه ، فإنه ما من وجع يعالج بالكي إلا وله دواء يغني عنه ، ليس فيه إحراق ، فالإحراق بالنار جرح مخرب للبنية محذور السراية مع الاستغناء عنه بخلاف الفصد والحجامة ، فإن سرايتهما بعيدة ، ولا يسد مسدها غيرهما ولذلك نهى رسول الله : صلى الله عليه وسلم : عن الكي دون الرقى .

وكل واحد منهما بعيد عن التوكل ، وروي أن عمران بن الحصين اعتل فأشاروا عليه بالكي فامتنع فلم يزالوا به وعزم عليه الأمر حتى اكتوى فكان يقول : كنت أرى نورا ، وأسمع صوتا ، وتسلم علي الملائكة ، فلما اكتويت انقطع ذلك عني وكان يقول : اكتوينا كيات فوالله ما أفلحت ولا أنجحت ثم تاب من ذلك وأناب إلى الله تعالى ، فرد الله تعالى عليه ما كان يجد من أمر الملائكة وقال لمطرف بن عبد الله ألم تر إلى الملائكة التي كان أكرمني الله بها قد ردها الله تعالى علي بعد أن كان أخبره بفقدها فإذا الكي وما يجري مجراه هو الذي لا يليق بالمتوكل ؛ لأنه يحتاج في استنباطه إلى تدبير ثم هو مذموم ويدل ، ذلك على شدة ملاحظة الأسباب وعلى التعمق فيها والله أعلم .

.

التالي السابق


(فإذا معنى التوكل مع التداوي التوكل بالعلم والحال، كما سبق) بيانه قريبا (في فنون الأعمال الدافعة للضرر، الجالبة للنفع، فأما ترك التداوي رأسا فليس شرطا فيه، فإن قلت: فالكي أيضا من الأسباب الظاهرة النفع) فلم جعل في السقم الموهوم (فأقول: ليس كذلك إذ الأسباب الظاهرة مثل الفصد والحجامة وشرب المسهل، وسقي المبردات للمحرور) وسقي الحوار للمبرود، فهذه هي الأسباب الظاهرة .

(وأما الكي فلو كان مثلها في الظهور لما خلت البلاد الكثيرة عنه، وقلما يعتاد الكي في أكثر البلاد، وإنما ذلك عادة بعض الأتراك والأعراب) في البوادي، فإنهم يستعملونه، وذلك لفقد الأدوية عندهم، (فهذا من الأسباب الموهومة كالرقى، إلا أنه يتميز عنه بأمر، وهو أنه احتراق بالنار في الحال، مع الاستغناء عنه، فإنه ما من وجع يعالج بالكي إلا وله دواء يغني عنه، ليس فيه إحراق، فالإحراق بالنار جرح مخرب للبنية محذور السراية مع الاستغناء عنه بخلاف الفصد والحجامة، فإن سرايتهما بعيدة، ولا يسده مسدهما غيرهما) من الأدوية، (ولذلك نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الكي) ، رواه الطبراني من حديث سعد الظفري قال الذهبي: الأصح أنه سعد بن النعمان يدرى، ورواه الترمذي، والحاكم من حديث عمران بن الحصين، قال الحافظ في الفتح: سنده قوي، وهو نهي تنزيه، حيث أمكن الاستغناء عنه بغيره .

وأما قولهم: آخر الطب الكي فهو كلام مشهور، معناه بعد انقطاع طرق الشفاء يعالج به، ولذلك كان أحد ما يحمل عليه النهي عن الكي وجود طريق مرجو للشفاء سواه (دون الرقى) جمع رقية بالضم، وهي ما يعوذ بها .

قال العراقي: رواه البخاري من حديث ابن عباس: "رخص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الرقية من كل ذي حمة". انتهى .

وأما ما رواه الحاكم من حديث ابن مسعود "نهى عن الرقى والتمائم والتولة" فمحمول على ما إذا كانت الرقية بغير القرآن وأسماء الله وصفاته، وأما بها فجائز، قال ابن التين: الرقى بذلك هو الطب الروحاني إذا كان على لسان الأبرار حصل الشفاء بإذن الله تعالى، فلما عز هذا النوع فزع الناس إلى الطب الجسماني، وتلك الرقى المنهي عنها التي يستعملها المعزم ممن يزعم تسخير الجن تأتي مركبة من حق وباطل، تجمع إلى ذكر أسماء الله وصفاته ما يشوبه من ذكر الشياطين، والاستعانة بهم، والتعوذ من مردتهم، فلذلك نهي عن الرقى بما جهل معناه؛ ليكون بريئا من شوب الشرك، وفي الموطأ أن أبا بكر -رضي الله عنه- قال لليهودية التي كانت ترقي عائشة -رضي الله عنها- ارقيها بكتاب الله .

(وكل واحد منهما) ، أي: من الكي والرقي (بعيد عن) صفة (التوكل، وروي عن) أبي نجيد (عمران بن الحصين) بن عبيد الخزاعي -رضي الله عنه- أسلم في وقعة خيبر، وتحول إلى البصرة، فمات بها (اعتل) في بطنه فظل صريعا ثلاثين سنة على سرير جريد، قد نقب له في أوسطه لموضع الغائط؛ لأنه كان سطيحا لا يستطيع القيام، (فأشاروا عليه بالكي فامتنع) منه (فلم يزالونه) يلحون عليه (وعزم عليه الأمير) هو عبيد بن زياد، كما عند الدارمي (حتى اكتوى) في بطنه سبع كيات، (فكان) -رضي الله عنه- (يقول: كنت أرى نورا، وأسمع صوتا، وتسلم علي الملائكة، فلما اكتويت انقطع ذلك عني) كذا في القوت، (و) في رواية (كان يقول: اكتوينا كيات فوالله ما أفلحن ولا أنجحن) يعني الكيات، وروى الحسن عن مطرف بن عبد الله قال: أتينا عمران بن الحصين نعوده، وكان قد اكتوى في بطنه، فقال: نهانا النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الكي فاكتوينا فما أفلحنا [ ص: 521 ] ولا أنجحنا، ورواه الحارث بن أبي أسامة من طريق هشام بن الحسن عن عمران أنه شكا بطنه، فلبث زمانا طويلا فدخل عليه رجل فذكر قصته فقال: إن أحب ذلك إلي أحبه إلى الله قال: حتى اكتوى قبل وفاته لسنتين، وكان يسلم عليه، فلما اكتوى فقده ثم عاد إليه . وفي لفظ آخر: كانت الملائكة تزوره فيأنس بها حتى اكتوى، (ثم تاب من ذلك وأناب إلى الله تعالى، فرد الله تعالى عليه ما كان يجد من أمر الملائكة) .

قال ابن عبد البر: كان من فضلاء الصحابة وفقهائهم، يقول عنه أهل البصرة: إنه كان يرى الحفظة، وكانت تكلمه حتى اكتوى . (وقال) -رضي الله عنه- (لمطرف بن عبد الله) بن الشخير العامري التابعي البصري: (ألم تر أن الملائكة التي) كان (أكرمني الله بها قد ردها الله تعالى علي بعد أن كان أخبره بفقدها) .

رواه الدارمي قال: حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا أبو هلال، حدثنا قتادة عن مطرف قال: قال عمران بن حصين: إني محدثك بحديث: أنه كان يسلم علي، وأن ابن زياد أمرني فاكتويت فحبس عني حتى ذهب أثر الكي . قال صاحب القوت: فلولا أن ذلك كان عنده ذنبا ما ندم عليه ولما تاب منه، ولولا أنه كان نقصا ما صرفت الملائكة عنه، (فإذا الكي وما يجري مجراه هو الذي لا يليق بالتوكل; لأنه يحتاج في استنباطه إلى تدبير ثم هو موهوم، فدل ذلك على شدة ملاحظة الأسباب وعلى التعمق فيها)والله أعلم .




الخدمات العلمية