الأصل الثالث : أن الإنسان لا يخفى أنه يحب نفسه ولا يخفى أنه قد يحب غيره لأجل نفسه وهل يتصور أن يحب غيره لذاته لا لأجل نفسه ؟ هذا مما قد يشكل على الضعفاء حتى يظنوا أنه لا يتصور أن يحب الإنسان غيره لذاته ما لم يرجع منه حظ إلى المحب سوى إدراك ذاته ، والحق أن ذلك متصور وموجود ، فلنبين وبيانه أن المحبوب الأول عند كل حي نفسه وذاته ، ومعنى حبه لنفسه أن في طبعه ميلا إلى دوام وجوده ونفرة عن عدمه وهلاكه ، فلذلك يحب الإنسان دوام الوجود ويكره الموت والقتل لا لمجرد ما يخافه بعد الموت ولا لمجرد الحذر من سكرات الموت ، بل لو اختطف من غير ألم وأميت من غير ثواب ولا عقاب لم يرض به ، وكان كارها لذلك ، و لا يحب الموت والعدم المحض إلا لمقاساة ألم في الحياة ومهما كان مبتلى ببلاء فمحبوبه زوال البلاء فإن أحب العدم لم يحبه ؛ لأنه عدم بل لأن فيه زوال البلاء ، فالهلاك والعدم ممقوت ودوام الوجود محبوب ، وكما أن دوام الوجود محبوب فكمال الوجود أيضا محبوب؛ لأن الناقص فاقد للكمال والنقص عدم بالإضافة إلى القدر المفقود ، وهو هلاك بالنسبة إليه ، والهلاك والعدم ممقوت في الصفات وكمال الوجود كما أنه ممقوت في أصل الذات ووجود صفات الكمال محبوب ، كما أن دوام أصل الوجود محبوب وهذه غريزة في الطباع بحكم سنة الله تعالى أسباب المحبة وأقسامها ، ولن تجد لسنة الله تبديلا فإذا المحبوب الأول للإنسان ذاته ثم سلامة أعضائه ثم ماله وولده وعشيرته وأصدقاؤه فالأعضاء محبوبة وسلامتها مطلوبة ؛ لأن كمال الوجود ودوام الوجود موقوف عليها لأنه أيضا آلة في دوام الوجود وكماله ، وكذا سائر الأسباب فالإنسان يحب هذه الأشياء لا لأعيانها ، بل لارتباط حظه في دوام الوجود وكماله بها حتى أنه ليحب ولده ، وإن كان لا يناله منه حظ بل يتحمل المشاق لأجله لأنه يخلفه في الوجود بعد عدمه فيكون في بقاء نسله نوع بقاء له ، فلفرط حبه في بقاء نفسه يحب بقاء من هو قائم مقامه ، وكأنه جزء منه لما عجز عن الطمع في بقاء نفسه أبدا ، نعم لو خير بين قتله وقتل ولده ، وكان طبعه باقيا على اعتداله آثر بقاء نفسه على بقاء ولده لأن بقاء ولده يشبه بقاءه من وجه ، وليس هو بقاء المحقق ، وكذلك حبه لأقاربه وعشيرته يرجع إلى حبه لكمال نفسه ، فإنه يرى نفسه كثيرا بهم قويا بسببهم متجملا بكمالهم فإن العشيرة والمال والأسباب الخارجة كالجناح المكمل للإنسان وكمال الوجود ودوامه محبوب بالطبع لا محالة ، فإذا المحبوب الأول عند كل حي ذاته وكماله ذاته ودوام ذلك كله ، والمكروه عنده ضد ذلك ، فهذا هو أول الأسباب . والمال محبوب ؛
السبب الثاني : الإحسان ، فإن الإنسان عبد الإحسان ، وقد جبلت القلوب على حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم لا تجعل لفاجر علي يدا فيحبه قلبي إشارة إلى أن حب القلب للمحسن اضطرار لا يستطاع دفعه ، وهو جبلة وفطرة لا سبيل إلى تغييرها ، وبهذا السبب قد يحب الإنسان الأجنبي الذي لا قرابة بينه وبينه ولا علاقة وهذا إذا حقق رجع إلى السبب الأول ، فإن المحسن من أمد بالمال والمعونة وسائر الأسباب الموصلة إلى دوام الوجود وكمال الوجود وحصول الحظوظ التي بها يتهيأ الوجود إلا أن الفرق أن أعضاء الإنسان محبوبة ؛ لأن بها كمال وجوده ، وهي عين الكمال المطلوب ، فأما المحسن فليس هو عين الكمال المطلوب ، ولكن قد يكون سببا له كالطبيب الذي يكون سببا في دوام صحة الأعضاء ، ففرق بين حب الصحة وبين حب الطبيب الذي هو سبب الصحة إذ الصحة مطلوبة لذاتها ، والطبيب محبوب لا لذاته بل لأنه سبب الصحة ، وكذلك العلم محبوب والأستاذ محبوب ، ولكن العلم محبوب لذاته والأستاذ محبوب لكونه سبب العلم المحبوب ، وكذلك الطعام والشراب محبوب والدنانير محبوبة لكن الطعام محبوب لذاته ، والدنانير محبوبة لأنها وسيلة إلى الطعام ، فإذا يرجع الفرق إلى تفاوت الرتبة وإلا فكل واحد يرجع إلى محبة الإنسان نفسه ، فكان من أحب المحسن لإحسانه فما أحب ذاته تحقيقا بل أحب إحسانه ، وهو فعل من أفعاله لو زال زال الحب مع بقاء ذاته تحقيقا ، ولو نقص نقص الحب ، ولو زاد زاد ويتطرق إليه الزيادة والنقصان بحسب زيادة الإحسان ونقصانه .
السبب الثالث : أن يحب الشيء لذاته لا لحظ ينال منه وراء ذاته ، بل تكون ذاته عين حظه ، وهذا هو الحب الحقيقي البالغ الذي يوثق بدوامه ، وذلك كحب الجمال والحسن فإن كل جمال محبوب عند مدرك الجمال ، وذلك لعين الجمال ؛ لأن إدراك الجمال فيه عين اللذة ، واللذة محبوبة لذاتها لا لغيرها ، ولا تظنن أن حب الصور الجميلة لا يتصور إلا لأجل قضاء الشهوة ، فإن قضاء الشهوة لذة أخرى قد تحب الصور الجميلة لأجلها ، وإدراك نفس الجمال أيضا لذيذ ، فيجوز أن يكون محبوبا لذاته ، وكيف ينكر ذلك والخضرة والماء الجاري محبوب لا ليشرب الماء وتؤكل الخضرة ، أو ينال منها حظ سوى نفس الرؤية ، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجبه الخضرة والماء الجاري والطباع السليمة قاضية باستلذاذ النظر إلى الأنوار والأزهار والأطيار المليحة الألوان الحسنة النقش المتناسبة الشكل حتى إن الإنسان لتنفرج عنه الغموم والهموم بالنظر إليها لا لطلب حظ وراء النظر ، فهذه الأسباب ملذة ، وكل لذيذ محبوب ، وكل حسن وجمال فلا يخلو إدراكه عن لذة ولا أحد ينكر كون الجمال محبوبا بالطبع ، فإن ثبت أن الله جميل كان لا محالة محبوبا عند من انكشف له جماله وجلاله ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : . إن الله جميل يحب الجمال