وأما السبب الرابع وهو ، فقد بينا أن ذلك مجبول في الطباع وأن ، الجمال ينقسم إلى جمال الصورة الظاهرة المدركة بعين الرأس ، وإلى جمال الصورة الباطنة المدركة بعين القلب ونور البصيرة ، والأول يدركه الصبيان والبهائم ، والثاني يختص بدركه أرباب القلوب ولا يشاركهم فيه من لا يعلم إلا ظاهرا من الحياة الدنيا وكل جمال فهو محبوب عند مدرك الجمال ، فإن كان مدركا بالقلب فهو محبوب القلب ، ومثال هذا في المشاهدة حب الأنبياء والعلماء وذوي المكارم السنية والأخلاق المرضية ، فإن ذلك متصور مع تشوش صورة الوجه وسائر الأعضاء ، وهو المراد بحسن الصورة الباطنة والحس لا يدرك ، نعم يدرك بحسن آثاره الصادرة منه الدالة عليه حتى إذا دل القلب عليه مال القلب إليه فأحبه ، فمن يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو الصديق رضي الله تعالى عنه ، أو حب كل جميل لذات الجمال لا لحظ ينال من وراء إدراك الجمال رحمة الله عليه فلا يحبهم إلا لحسن ما ظهر له منهم ، وليس ذلك لحسن صورهم ولا لحسن أفعالهم بل دل حسن أفعالهم على ، حسن الصفات التي هي مصدر الأفعال ؛ إذ الأفعال آثار صادرة عنها ودالة عليها ، فمن رأى حسن تصنيف المصنف وحسن شعر الشاعر ، بل حسن نقش النقاش وبناء البناء انكشف له من هذه الأفعال صفاتها الجميلة الباطنة التي يرجع حاصلها عند البحث إلى العلم والقدرة ، ثم كلما كان المعلوم أشرف وأتم جمالا وعظمة كان العلم أشرف وأجمل ، وكذا المقدور كلما كان أعظم رتبة وأجل منزلة كانت القدرة عليه أجل رتبة وأشرف قدرا ، وأجل المعلومات هو الله تعالى ، فلا جرم الشافعي وكذلك ما يقاربه ويختص به فشرفه على قدر تعلقه به . أحسن العلوم وأشرفها معرفة الله تعالى
فإذا جمال صفات الصديقين الذين تحبهم القلوب طبعا ترجع إلى ثلاثة أمور : أحدها : علمهم بالله وملائكته وكتبه ورسله وشرائع أنبيائه ، والثاني قدرتهم على إصلاح أنفسهم وإصلاح عباد الله بالإرشاد والسياسة ، والثالث تنزههم عن الرذائل والخبائث والشهوات الغالبة الصارفة عن سنن الخير الجاذبة إلى طريق الشر وبمثل هذا يحب الأنبياء والعلماء والخلفاء والملوك الذين هم أهل العدل والكرم فانسب ، هذه الصفات إلى صفات الله تعالى .
أما العلم فأين علم الأولين والآخرين من علم الله تعالى الذي يحيط بالكل إحاطة خارجة عن النهاية حتى لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ، وقد خاطب الخلق كلهم فقال عز وجل : وما أوتيتم من العلم إلا قليلا بل لو اجتمع أهل الأرض والسماء على أن يحيطوا بعلمه وحكمته في تفصيل خلق نملة أو بعوضة لم يطلعوا على عشر عشير ذلك ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء والقدر اليسير الذي علمه الخلائق كلهم فبتعليمه علموه ، كما قال تعالى : خلق الإنسان علمه البيان فإن كان جمال العلم وشرفه أمرا محبوبا ، وكان هو في نفسه زينة وكمالا للموصوف به فلا ينبغي أن يحب بهذا السبب إلا الله تعالى .
فعلوم العلماء جهل بالإضافة إلى علمه بل من عرف أعلم أهل زمانه وأجهل أهل زمانه استحال أن يحب بسبب العلم الأجهل ويترك الأعلم ، وإن كان الأجهل لا يخلو عن علم ما تتقاضاه معيشته ، والتفاوت بين علم الله وبين علم الخلائق أكثر من التفاوت بين علم أعلم الخلائق وأجهلهم ؛ لأن الأعلم لا يفضل الأجهل إلا بعلوم معدودة متناهية يتصور في الإمكان أن ينالها الأجهل بالكسب والاجتهاد ، كلهم خارج عن النهاية ؛ إذ معلوماته لا نهاية لها ومعلومات الخلق متناهية . وفضل علم الله تعالى على علوم الخلائق