فمقصد العارفين كلهم وصله ولقاؤه فقط ، فهي قرة العين التي لا تعلم نفس ما أخفي لهم منها وإذا حصلت انمحقت الهموم والشهوات كلها ، وصار القلب مستغرقا بنعيمها ، فلو ألقي في النار لم يحس بها لاستغراقه ولو عرض عليه نعيم الجنة لم يلتفت إليه لكمال نعيمه وبلوغه الغاية التي ليس فوقها غاية وليت شعري من لم يفهم إلا حب المحسوسات كيف يؤمن بلذة وما له صورة ولا شكل وأي معنى لوعد الله تعالى به عباده وذكره أنه أعظم النعم ، بل من عرف الله عرف أن اللذات المفرقة بالشهوات المختلفة كلها تنطوي تحت هذه اللذة كما قال بعضهم . النظر إلى وجه الله تعالى
كانت لقلبي أهواء مفرقة فاستجمعت مذ رأتك العين أهوائي فصار يحسدني من كنت أحسده
وصرت مولى الورى مذ صرت مولائي تركت للناس دنياهم ودينهم
شغلا بذكرك يا ديني ودنيائي
وهجره أعظم من ناره ووصله أطيب من جنته
ومثال أطوار الخلق في لذتهم ما نذكره وهو أن الصبي في أول حركته وتمييزه يظهر فيه غريزة بها يستلذ اللعب واللهو حتى يكون ذلك عنده ألذ من سائر الأشياء ثم يظهر بعده لذة الزينة ولبس الثياب وركوب الدواب فيستحقر معها لذة اللعب ثم يظهر بعده لذة الوقاع وشهوة النساء فيترك بها جميع ما قبلها في الوصول إليها ثم تظهر لذة الرياسة والعلو والتكاثر وهي آخر لذات الدنيا وأعلاها وأقواها كما قال تعالى : اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر الآية .
ثم بعد هذا تظهر غريزة أخرى يدرك بها فيستحقر معها جميع ما قبلها فكل متأخر فهو أقوى ، وهذا هو الأخير ؛ إذ يظهر حب اللعب في سن التمييز وحب النساء والزينة في سن البلوغ وحب الرياسة بعد العشرين ، وحب العلوم بقرب الأربعين وهي الغاية العليا وكما أن الصبي يضحك على من يترك اللعب ويشتغل بملاعبة النساء وطلب الرياسة ، فكذلك الرؤساء يضحكون على من يترك الرياسة ويشتغل بمعرفة الله تعالى ، والعارفون يقولون : لذة معرفة الله تعالى ومعرفة أفعاله إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون فسوف تعلمون .