ومنها ما لم ينته إلى حد الرين والطبع ولم يخرج عن قبول التزكية والتصقيل ، فيعرض على النار عرضا يقمع منه الخبث الذي هو متدنس به ويكون العرض على النار بقدر الحاجة إلى التزكية وأقلها لحظة خفيفة وأقصاها في حق المؤمنين كما وردت به الأخبار سبعة آلاف سنة ولن ترتحل نفس عن هذا العالم إلا ويصحبها غبرة وكدورة ما ، وإن قلت ؛ ولذلك قال الله تعالى : وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا فإذا أكمل الله تطهيرها وتزكيتها وبلغ الكتاب أجله ووقع الفراغ عن جملة ما وعد به الشرع من الحساب والعرض وغيره ووافى استحقاق الجنة ، وذلك وقت مبهم لم يطلع الله عليه أحدا من خلقه فإنه واقع بعد القيامة ، فكل نفس مستيقنة للورود على النار وغير مستيقنة للصدور عنها فعند ذلك يشتغل بصفائه ونقائه عن الكدورات حيث لا يرهق وجهه غبرة ولا قترة لأن فيه يتجلى الحق سبحانه وتعالى فيتجلى له تجليا يكون انكشاف تجليه بالإضافة إلى ما علمه كانكشاف تجلي المرآة بالإضافة إلى ما تخيله . ووقت القيامة مجهول
وهذه المشاهدة والتجلي هي التي تسمى رؤية فإذا ، الرؤية حق بشرط أن لا يفهم من الرؤية استكمال الخيال في متخيل متصور مخصوص بجهة ومكان ؛ فإن ذلك مما يتعالى عنه رب الأرباب علوا كبيرا بل كما عرفته في الدنيا معرفة حقيقية تامة من غير تخيل وتصور وتقدير شكل وصورة فتراه في الآخرة كذلك .
بل أقول : المعرفة الحاصلة في الدنيا بعينها هي التي تستكمل فتبلغ كمال الكشف والوضوح وتنقلب مشاهدة ولا يكون بين المشاهدة في الآخرة والمعلوم في الدنيا اختلاف إلا من حيث زيادة الكشف والوضوح ، كما ضربناه من المثال في استكمال الخيال بالرؤية .
فإذا لم يكن في إثبات صورة وجهه فلا يكون في استكمال تلك المعرفة بعينها وترقيها في الوضوح إلى غاية الكشف أيضا جهة وصورة ؛ لأنها هي بعينها لا تفترق منها إلا في زيادة الكشف ، كما أن الصورة المرئية هي المتخيلة بعينها إلا في زيادة الكشف وإليه الإشارة بقوله تعالى : معرفة الله تعالى يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا ؛ إذ تمام النور لا يؤثر إلا في زيادة الكشف ولهذا لا يفوز بدرجة النظر والرؤية إلا العارفون في الدنيا ؛ لأن المعرفة هي البذر الذي ينقلب في الآخرة مشاهدة ، كما تنقلب النواة شجرة والحب زرعا ، ومن لا نواة في أرضه كيف يحصل له نخل ؟! ومن لم يزرع الحب فكيف يحصد الزرع ؟! فكذلك من لم يعرف الله تعالى في الدنيا فكيف يراه في الآخرة ؟! ولما كانت المعرفة على درجات متفاوتة كان ؛ فاختلاف التجلي بالإضافة إلى اختلاف المعارف كاختلاف النبات بالإضافة إلى اختلاف البذر ؛ إذ تختلف لا محالة بكثرتها وقلتها وحسنها وقوتها وضعفها ؛ ولذلك قال النبي : صلى الله عليه وسلم : التجلي أيضا على درجات متفاوتة إن الله يتجلى للناس عامة ولأبي بكر خاصة فلا ينبغي أن يظن أن غير ممن هو دونه يجد من لذة النظر والمشاهدة ما يجده أبي بكر بل لا يجد إلا عشر عشيره إن كانت معرفته في الدنيا عشر عشيره ، ولما فضل من الناس بسر وقر في صدره ، فضل لا محالة بتجل انفرد به وكما أنك ترى في الدنيا من يؤثر لذة الرياسة على المطعوم والمنكوح ، وترى من يؤثر لذة العلم وانكشاف مشكلات ملكوت السموات والأرض وسائر الأمور الإلهية على الرياسة وعلى المنكوح والمطعوم والمشروب جميعا ، فكذلك يكون في الآخرة قوم يؤثرون أبو بكر على نعيم الجنة ؛ إذ يرجع نعيمها إلى المطعوم والمنكوح ، وهؤلاء بعينهم هم الذين حالهم في الدنيا ما وصفنا من إيثار لذة العلم والمعرفة والاطلاع على أسرار الربوبية على لذة المنكوح والمطعوم والمشروب ، وسائر الخلق مشغولون به . لذة النظر إلى وجه الله تعالى
ولذلك ، لما قيل لرابعة ما تقولين في الجنة فقال ؟ الجار ثم الدار .
فبينت أنه ليس في قلبها التفات إلى الجنة ، بل إلى رب الجنة .
، وكل من لم يجد لذة المعرفة في الدنيا فلا يجد لذة النظر في الآخرة ؛ إذ ليس يستأنف لأحد في الآخرة ما لم يصحبه من الدنيا ولا يحصد أحد إلا ما زرع ، ولا يحشر المرء إلا على ما مات عليه ولا يموت إلا على ما عاش عليه ، فما صحبه من المعرفة هو الذي يتنعم به بعينه فقط إلا أنه ينقلب مشاهدة بكشف الغطاء فتتضاعف اللذة به ، كما تتضاعف لذة العاشق إذا استبدل بخيال صورة المعشوق رؤية صورته ، فإن ذلك منتهى لذته وإنما طيبة الجنة أن لكل أحد فيها ما يشتهي ؛ فمن لا يشتهي إلا لقاء الله تعالى فلا لذة له في غيره ، بل ربما يتأذى به . وكل من لم يعرف الله في الدنيا فلا يراه في الآخرة
فإذا ، ، وحب الله تعالى بقدر معرفته ، فأصل السعادات هي المعرفة التي عبر الشرع عنها بالإيمان . نعيم الجنة بقدر حب الله تعالى
فإن قلت : فلذة الرؤية إن كان لها نسبة إلى لذة المعرفة فهي قليلة وإن كان أضعافها ؛ لأن لذة المعرفة في الدنيا ضعيفة فتضاعفها إلى حد قريب لا ينتهي في القوة إلى أن يستحقر سائر لذات الجنة فيها ، فاعلم أن هذا الاستحقار للذة المعرفة صدر من الخلو عن المعرفة فمن خلا عن المعرفة كيف ، يدرك لذتها وإن انطوى على معرفة ضعيفة وقلبه مشحون بعلائق الدنيا ، فكيف يدرك لذتها ؟! فللعارفين في معرفتهم وفكرتهم ومناجاتهم لله تعالى لذات لو عرضت عليهم الجنة في الدنيا بدلا عنها لم يستبدلوا بها لذة الجنة ، ثم هذه اللذة مع كمالها لا نسبة لها أصلا إلى لذة اللقاء والمشاهدة ، كما لا نسبة للذة خيال المعشوق إلى رؤيته ولا للذة استنشاق روائح الأطعمة الشهية إلى ذوقها ولا للذة اللمس باليد إلى لذة الوقاع .
وإظهار عظم التفاوت بينهما لا يمكن إلا بضرب مثال ، فنقول : لذة النظر إلى وجه المعشوق في الدنيا تتفاوت بأسباب أحدها كمال جمال المعشوق ونقصانه ؛ فإن اللذة في النظر إلى الأجمل أكمل لا محالة .
والثاني كمال قوة الحب والشهوة والعشق ، فليس التذاذ من اشتد عشقه كالتذاذ ضعفت شهوته وحبه .
والثالث : كمال الإدراك ؛ فليس التذاذه برؤية المعشوق في ظلمة ، أو من وراء ستر رقيق ، أو من بعده كالتذاذه بإدراكه على قرب من غير ستر وعند كمال الضوء ، ولا إدراك لذة المضاجعة مع ثوب حائل كإدراكها مع التجرد .