فهذه لمعة عجيبة من وفيها من العجائب ما لو اجتمع الأولون والآخرون على الإحاطة بكنهه عجزوا عن حقيقته ولم يطلعوا على أمور جلية من ظاهر صورته ، فأما خفايا معاني ذلك فلا يطلع عليها إلا الله تعالى . عجائب صنع الله تعالى في أصغر الحيوانات ،
ثم في كل حيوان ونبات أعجوبة وأعاجيب تخصه لا يشاركه فيها غيره فانظر إلى النحل وعجائبها وكيف أوحى الله تعالى إليها حتى اتخذت من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون وكيف استخرج من لعابها الشمع والعسل وجعل أحدهما ضياء وجعل الآخر شفاء ثم لو تأملت عجائب أمرها في تناولها الأزهار والأنوار واحترازها عن النجاسات والأقذار وطاعتها لواحد من جملتها هو أكبرها شخصا ، وهو أميرها ثم ما سخر الله تعالى له أميرها من العدل والإنصاف بينها ، حتى إنه ليقتل على باب المنفذ كل ما وقع منها على نجاسة لقضيت منها عجبا آخر العجب إن كنت بصيرا في نفسك وفارغا من هم بطنك وفرجك وشهوات نفسك في معاداة أقرانك وموالاة إخوانك ثم دع عنك جميع ذلك وانظر إلى بنائها بيوتها من الشمع واختيارها من جملة الأشكال الشكل المسدس فلا تبني بيتا مستديرا ولا مربعا ولا مخمسا ، بل مسدسا لخاصية في الشكل المسدس يقصر فهم المهندسين عن دركها وهو أن أوسع الأشكال وأحواها المستديرة : وما يقرب منها ؛ فإن المربع يخرج منه زوايا ضائعة ، وشكل النحل مستدير مستطيل ، فترك المربع حتى لا تضيع الزوايا فتبقى فارغة ، ثم لو بناها مستديرة لبقيت خارج البيوت فرج ضائعة ؛ فإن الأشكال المستديرة إذا جمعت لم تجتمع متراصة ولا شكل في الأشكال ذوات الزوايا يقرب في الاحتواء من المستدير ، ثم تتراص الجملة منه بحيث لا يبقى بعد اجتماعها فرجة إلا المسدس ، وهذه خاصية هذا الشكل فانظر كيف ألهم الله تعالى النحل على صغر جرمه ولطافة قده لطفا به وعناية بوجوده وما هو محتاج إليه ليتهنأ بعيشه ؛ فسبحانه ما أعظم شأنه ! وأوسع لطفه وامتنانه .
! فاعتبر بهذه اللمعة اليسيرة من محقرات الحيوانات ، ودع عنك عجائب ملكوت الأرض والسموات ؛ فإن القدر الذي بلغه فهمنا القاصر منه تنقضي الأعمار دون إيضاحه ولا نسبة لما أحاط به علمنا إلى ما أحاط به العلماء والأنبياء ، ولا نسبة لما أحاط به علم الخلائق كلهم إلى ما استأثر الله تعالى بعلمه ، بل كل ما عرفه الخلق لا يستحق أن يسمى علما في جنب علم الله تعالى فبالنظر في هذا وأمثاله تزداد المعرفة الحاصلة بأسهل الطريقين ، وبزيادة المعرفة تزداد المحبة ؛ فإن كنت طالبا سعادة لقاء الله تعالى فانبذ الدنيا وراء ظهرك واستغرق العمر في الذكر الدائم والفكر اللازم فعساك تحظى منها بقدر يسير ، ولكن تنال بذلك اليسير ملكا عظيما لا آخر له .