وقد ذكرنا أن إذ المحبة في وضع اللسان عبارة عن ميل النفس إلى الشيء الموافق ، والعشق عبارة عن الميل الغالب المفرط وقد بينا أن الإحسان موافق للنفس والجمال موافق أيضا ، وأن الجمال والإحسان تارة يدرك بالبصر وتارة يدرك بالبصيرة ، والحب يتبع كل واحد منهما فلا يختص بالبصر . محبة العبد لله تعالى حقيقة وليست بمجاز ؛
فأما فلا يمكن أن يكون بهذا المعنى أصلا ، بل الأسامي كلها إذا أطلقت على الله تعالى وعلى غير الله لم تنطلق عليهما بمعنى واحد أصلا ، حتى إن اسم الوجود الذي هو أعم الأسماء اشتراكا لا يشمل الخالق والخلق على وجه واحد ، بل كل ما سوى الله تعالى فوجوده مستفاد من وجود الله تعالى ؛ فالوجود التابع لا يكون مساويا للوجود المتبوع . حب الله للعبد
وإنما الاستواء في إطلاق الاسم نظيره اشتراك الفرس والشجر في اسم الجسم ؛ إذ معنى الجسمية وحقيقتها متشابهة فيهما من غير استحقاق أحدهما لأن يكون فيه أصلا ؛ فليست الجسمية لأحدهما مستفادة من الآخر ، وليس كذلك اسم الوجود لله ولا لخلقه وهذا التباعد في سائر الأسامي أظهر كالعلم والإرادة .
والقدرة وغيرها ؛ فكل ذلك لا يشبه فيه الخالق الخلق ، وواضع اللغة إنما وضع هذه الأسامي أولا للخلق ؛ فإن الخلق أسبق إلى العقول والأفهام من الخالق ؛ فكان استعمالها في حق الخالق بطريق الاستعارة والتجوز والنقل والمحبة في وضع اللسان عبارة عن ميل النفس إلى موافق ملائم ، وهذا إنما يتصور في نفس ناقصة فاتها ما يوافقها فتستفيد بنيله كمالا فتلتذ بنيله ، وهذا محال على الله تعالى ؛ فإن كل كمال وجمال وبهاء وجلال ممكن في حق الإلهية فهو حاضر وحاصل وواجب الحصول أبدا وأزلا ، ولا يتصور تجدده ولا زواله ، فلا يكون له إلى غيره نظر من حيث إنه غيره ، بل نظره إلى ذاته وأفعاله فقط وليس في الوجود إلا ذاته وأفعاله ولذلك قال الشيخ أبو سعيد الميهني رحمه الله تعالى لما قرئ عليه قوله تعالى : يحبهم ويحبونه فقال : بحق يحبهم ؛ فإنه ليس يحب إلا نفسه على معنى أنه الكل ، وأن ليس في الوجود غيره فمن لا يحب إلا نفسه وأفعال نفسه وتصانيف نفسه فلا يجاوز حبه ذاته وتوابع ذاته من حيث هي متعلقة بذاته ؛ فهو إذا لا يحب إلا نفسه وما ورد من الألفاظ في حبه لعباده فهو مؤول ويرجع معناه إلى كشف الحجاب عن قلبه حتى يراه بقلبه وإلى تمكينه إياه من القرب منه وإلى إرادته ذلك به في الأزل ؛ فحبه لمن أحبه أزلي مهما أضيف إلى الإرادة الأزلية التي اقتضت تمكين هذا العبد من سلوك طرق هذا القرب ، وإذا أضيف إلى فعله الذي يكشف الحجاب عن قلب عبده فهو حادث يحدث بحدوث السبب المقتضي له ، كما قال تعالى فيكون لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه باطنه وارتفاع الحجاب عن قلبه وحصوله في درجة القرب من ربه فكل ، ذلك فعل الله تعالى ولطفه به فهو معنى حبه . تقربه بالنوافل سببا لصفاء
ولا يفهم هذا إلا بمثال ، وهو أن الملك قد يقرب عبده من نفسه ويأذن له في كل وقت في حضور بساطه لميل الملك إليه إما لينصره بقوته ، أو ليستريح بمشاهدته ، أو ليستشيره في رأيه ، أو ليهيئ أسباب طعامه وشرابه ؛ فيقال : إن الملك يحبه ويكون معناه ميله إليه لما فيه من المعنى الموافق الملائم له .
وقد يقرب عبدا ولا يمنعه من الدخول عليه لا للانتفاع به ولا للاستنجاد به ولكن لكون العبد في نفسه موصوفا من الأخلاق المرضية والخصال الحميدة بما يليق به أن يكون قريبا من حضرة الملك وافر الحظ من قربه ، مع أن الملك لا غرض له فيه أصلا ، فإذا رفع الملك الحجاب بينه وبينه ، يقال : قد أحبه ، وإذا اكتسب من الخصال الحميدة ما اقتضى رفع الحجاب يقال قد توصل وحبب نفسه إلى الملك .
فحب الله للعبد إنما يكون بالمعنى الثاني لا بالمعنى الأول .
وإنما يصح تمثيله بالمعنى الثاني بشرط أن لا يسبق إلى فهمك دخول تغير عليه عند تجدد القرب ؛ فإن الحبيب هو القريب من الله تعالى ، والقرب من الله في البعد من صفات البهائم والسباع والشياطين والتخلق بمكارم الأخلاق التي هي الأخلاق الإلهية فهو قرب بالصفة لا بالمكان ومن لم يكن قريبا فصار قريبا فقد تغير ، فربما يظن بهذا أن القرب لما تجدد فقد تغير وصف العبد والرب جميعا ؛ إذ صار قريبا بعد أن لم يكن ، وهو محال في حق الله تعالى ؛ إذ التغير عليه محال ، بل لا يزال في نعوت الكمال والجلال على ما كان عليه في أزل الآزال ، ولا ينكشف هذا إلا بمثال في القرب بين الأشخاص ؛ فإن الشخصين قد يتقاربان بتحركهما جميعا ، وقد يكون أحدهما ثابتا فيتحرك الآخر فيحصل القرب بتغير في أحدهما من غير تغير في الآخر بل القرب في الصفات أيضا ، كذلك فإن التلميذ يطلب القرب من درجة أستاذه في كمال العلم وجماله ، والأستاذ واقف في كمال علمه غير متحرك بالنزول إلى درجة تلميذه ، والتلميذ متحرك مترق من حضيض الجهل إلى ارتفاع العلم ، فلا يزال دائبا .
في التغير والترقي إلى أن يقرب من أستاذه ، والأستاذ ثابت غير متغير ، فكذلك ينبغي أن يفهم ترقي العبد في درجات القرب فكلما صار أكمل صفة وأتم علما وإحاطة بحقائق الأمور وأثبت قوة في قهر الشيطان وقمع الشهوات وأظهر نزاهة عن الرذائل صار أقرب من درجة الكمال ، ومنتهى الكمال لله ، وقرب كل واحد من الله تعالى بقدر كماله .
نعم ؛ قد يقدر التلميذ على القرب من الأستاذ وعلى مساواته وعلى مجاوزته ، وذلك في حق الله محال ؛ فإنه لا نهاية لكماله ، وسلوك العبد في درجات الكمال متناه ، ولا ينتهي إلا إلى حد محدود ، فلا مطمع له في المساواة .