فلنذكر الآن علامات محبة العبد لله ؛ فإنها أيضا علامات حب الله للعبد .
القول في علامات محبة العبد لله تعالى .
اعلم أن المحبة يدعيها كل أحد ، وما أسهل الدعوى وما أعز المعنى ! فلا ينبغي أن يغتر الإنسان بتلبيس الشيطان .
وخدع النفس مهما ادعت محبة الله تعالى ما لم يمتحنها بالعلامات ولم يطالبها بالبراهين والأدلة .
والمحبة شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء : وثمارها تظهر في القلب واللسان والجوارح .
وتدل تلك الآثار الفائضة منها على القلب والجوارح على المحبة دلالة الدخان على النار ودلالة الثمار على الأشجار ؛ وهي : كثيرة فمنها حب لقاء الحبيب بطريق الكشف والمشاهدة في دار السلام فلا يتصور أن يحب القلب محبوبا إلا ويحب مشاهدته ولقاءه ، وإذا علم أنه لا وصول إلا بالارتحال من الدنيا ومفارقتها بالموت ، فينبغي أن يكون محبا للموت غير فار منه فإن المحب لا يثقل عليه السفر عن وطنه إلى مستقر محبوبه ليتنعم بمشاهدته والموت مفتاح اللقاء وباب الدخول إلى المشاهدة .
قال : صلى الله عليه وسلم : من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه وقال حذيفة عند الموت : حبيب جاء على فاقة ، لا أفلح من ندم .
وقال بعض السلف : ما من خصلة أحب إلى الله أن تكون في العبد بعد حب لقاء الله من كثرة السجود فقدم حب لقاء الله على السجود .
وقد شرط الله سبحانه لحقيقة الصدق في الحب القتل في سبيل الله ؛ حيث قالوا : إنا نحب الله ، فجعل القتل في سبيل الله وطلب الشهادة علامته ، فقال تعالى : إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا وقال عز وجل : يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وفي وصية أبي بكر لعمر رضي الله تعالى عنهما : الحق ثقيل ، وهو مع ثقله مريء ، والباطل خفيف ، وهو مع خفته وبيء ، فإن حفظت وصيتي لم يكن غائب أحب إليك من الموت ، وهو مدركك ، وإن ضيعت وصيتي لم يكن غائب أبغض إليك من الموت ولن تعجزه .
ويروى عن إسحاق بن سعد بن أبي وقاص قال : حدثني أبي أن عبد الله بن جحش قال له يوم أحد : ألا ندعو الله ؟ فخلوا في ناحية ، فدعا عبد الله بن جحش ، فقال : يا رب ، إني أقسمت عليك إذا لقيت العدو غدا فلقني رجلا شديدا بأسه شديدا حرده أقاتله فيك ويقاتلني ثم يأخذني فيجدع أنفي وأذني : ويبقر بطني : فإذا لقيتك غدا ، قلت يا عبد الله ، من جدع أنفك وأذنك ؟ فأقول : فيك يا رب وفي رسولك ، فتقول : صدقت ، قال سعد : فلقد رأيته آخر النهار وإن أنفه وأذنه لمعلقتان في خيط قال سعيد بن المسيب أرجو أن يبر الله آخر قسمه كما أبر أوله .
وقد كان الثوري وبشر الحافي يقولان : لا يكره الموت إلا مريب : لأن الحبيب على كل حال لا يكره لقاء حبيبه .
وقال البويطي لبعض الزهاد : أتحب الموت ؟ فكأنه توقف ، فقال : لو كنت صادقا لأحببته ، وتلا قوله تعالى : فتمنوا الموت إن كنتم صادقين فقال الرجل : فقد قال النبي : صلى الله عليه وسلم : لا يتمنين أحدكم الموت ، فقال : إنما قاله لضر نزل به ؛ لأن الرضا بقضاء الله تعالى أفضل من طلب الفرار منه .
فإن قلت من : لا يحب الموت ؛ فهل يتصور أن يكون محبا لله ، فأقول : كراهة الموت قد تكون لحب الدنيا والتأسف على فراق الأهل والمال والولد ، وهذا ينافي كمال حب الله تعالى ؛ لأن الحب الكامل هو الذي يستغرق كل القلب ، ولكن لا يبعد أن يكون له مع حب الأهل والولد شائبة من حب الله تعالى ضعيفة ؛ فإن الناس متفاوتون في الحب .


