ومنها : ويغتنم هدء الليل : وصفاء الوقت بانقطاع العوائق : وأقل درجات الحب التلذذ بالخلوة بالحبيب والتنعم بمناجاته ، فمن كان النوم والاشتغال بالحديث ألذ عنده وأطيب من مناجاة الله كيف تصح محبته قيل ؟! أن يكون أنسه بالخلوة ومناجاته لله تعالى وتلاوة كتابه فيواظب على التهجد وقد نزل من الجبل : من أين أقبلت . لإبراهيم بن أدهم
؟ فقال : من الأنس بالله وفي أخبار داود عليه السلام لا تستأنس إلى أحد من خلقي ؛ فإني إنما أقطع عني رجلين رجلا : استبطأ ثوابي فانقطع ، ورجلا نسيني فرضي بحاله ، وعلامة ذلك أن أكله إلى نفسه وأن أدعه في الدنيا حيران ومهما أنس بغير الله كان بقدر أنسه بغير الله مستوحشا من الله تعالى ساقطا عن درجة محبته وفي قصة برخ وهو العبد الأسود الذي استسقى به موسى عليه السلام إن الله تعالى قال لموسى عليه السلام إن برخا نعم العبد هو لي إلا أن فيه عيبا ، قال يا رب ، وما عيبه فقال : يعجبه نسيم الأسحار فيسكن إليه ، ومن أحبني لم يسكن إلى شيء وروي أن عابدا عبد الله تعالى في غيضة دهرا طويلا : فنظر إلى طائر ، وقد عشش في شجرة : يأوي إليها : ويصفر عندها : فقال : لو حولت مسجدي إلى تلك الشجرة فكنت آنس بصوت هذا الطائر ، قال : ففعل : فأوحى الله تعالى إلى نبي ذلك الزمان : قل لفلان العابد : استأنست بمخلوق ؟! لأحطنك درجة لا تنالها بشيء من عملك أبدا .
فإذا علامة المحبة كمال الأنس بمناجاة المحبوب ، وكمال التنعم بالخلوة به وكمال الاستيحاش من كل ما ينغص عليه الخلوة ويعوق عن لذة المناجاة وعلامة الأنس مصير العقل والفهم كله مستغرقا بلذة المناجاة كالذي يخاطب معشوقه ويناجيه وقد انتهت هذه اللذة ببعضهم حتى كان في صلاته ووقع الحريق في داره فلم يشعر به وقطعت رجل بعضهم بسبب علة أصابته ، وهو في الصلاة فلم يشعر به ومهما غلب عليه الحب والأنس صارت الخلوة والمناجاة قرة عينه يدفع بها جميع الهموم بل يستغرق الأنس والحب قلبه حتى لا يفهم أمور الدنيا ما لم تكرر على سمعه مرارا مثل العاشق الولهان ؛ فإنه يكلم الناس بلسانه ، وأنسه في الباطن بذكر حبيبه .
فالمحب من لا يطمئن إلا بمحبوبه وقال قتادة في قوله تعالى : الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب قال : هشت إليه واستأنست به وقال الصديق : رضي الله تعالى عنه : من ذاق من خالص محبة الله شغله ذلك عن طلب الدنيا وأوحشه عن جميع البشر .
وقال مطرف بن أبي بكر المحب لا يسأم من حديث حبيبه ، وأوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام : قد كذب من ادعى محبتي ، إذا جنه الليل نام عني ، أليس كل محب يحب لقاء حبيبه ؟! فها أنا ذا موجود لمن طلبني وقال موسى عليه السلام : يا رب أين أنت فأقصدك ؟ فقال : إذا قصدت فقد وصلت ، وقال يحيى بن معاذ من أحب الله أبغض نفسه ، وقال أيضا : من لم تكن فيه ثلاث خصال فليس بمحب : يؤثر كلام الله تعالى على كلام الخلق ، ولقاء الله تعالى على لقاء الخلق ، والعبادة على خدمة الخلق .