نعم ؛ قد يكون للمحب سكرة في حبه حتى يدهش فيه وتضطرب أحواله فيظهر عليه حبه ، فإن وقع ذلك عن غير تمحل ، أو اكتساب فهو معذور ؛ لأنه مقهور وربما تشتعل من الحب نيرانه فلا يطاق سلطانه ، وقد يفيض القلب به فلا يندفع فيضانه .
فالقادر على الكتمان يقول :
وقالوا قريب قل ما أنا صانع بقرب شعاع الشمس لو كان في حجري فما لي منه غير ذكر بخاطر
يهيج نار الحب والشوق في صدري
يخفى :
فيبدي الدمع أسراره ويظهر الوجد عليه النفس
ومن قلبه مع غيره كيف حاله ومن سره في جفنه كيف يكتم
كأنه أراد من يكثر التعريض به في كل شيء ويظهر التصنع بذكره عند كل أحد فهو ممقوت عند المحبين والعلماء بالله عز وجل ودخل على بعض إخوانه ممن كان يذكر المحبة فرآه مبتلى ببلاء ، فقال لا يحبه من وجد ألم ضره فقال الرجل : لكني أقول : لا يحبه من لم يتنعم بضره فقال ذو النون المصري ذو النون ولكني : أقول : لا يحبه من شهر نفسه بحبه ، فقال الرجل أستغفر الله وأتوب إليه .
فإن قلت : المحبة منتهى المقامات وإظهارها إظهار للخير ، فلماذا يستنكر فاعلم أن أيضا ، وإنما المذموم التظاهر بها لما يدخل فيها من الدعوى والاستكبار وحق المحب أن ينم على حبه الخفي أفعاله وأحواله دون أقواله وأفعاله . المحبة محمودة ، وظهورها محمود
وينبغي أن يظهر حبه من غير قصد منه إلى إظهار الحب ولا إلى إظهار الفعل الدال على الحب ، بل ينبغي أن يكون قصد المحب إطلاع الحبيب فقط ، فأما إرادته إطلاع غيره فشرك في الحب .
وقادح فيه ، كما ورد في الإنجيل : إذا تصدقت فتصدق بحيث لا تعلم شمالك ما صنعت يمينك .
فالذي يرى الخفيات يجزيك علانية ، وإذا صمت فاغسل وجهك وادهن رأسك لئلا يعلم بذلك غير ربك .
فإظهار القول والفعل كله مذموم إلا إذا غلب سكر الحب فانطلق اللسان واضطربت الأعضاء فلا يلام فيه صاحبه .
حكي أن رجلا رأى من بعض المجانين ما استجهله فيه ، فأخبر بذلك معروفا الكرخي رحمه الله فتبسم ثم قال : يا أخي له محبون صغار وكبار وعقلاء ومجانين ؛ فهذا الذي رأيته من مجانينهم .