الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
ومنها : كتمان الحب واجتناب الدعوى والتوقي من إظهار الوجد والمحبة تعظيما للمحبوب وإجلالا له وهيبة منه وغيرة على سره ؛ فإن الحب سر من أسرار الحبيب ، ولأنه قد يدخل في الدعوى ما يتجاوز حد المعنى ويزيد عليه ، فيكون ذلك من الافتراء ، وتعظم العقوبة عليه في العقبى وتتعجل عليه البلوى في الدنيا .

نعم ؛ قد يكون للمحب سكرة في حبه حتى يدهش فيه وتضطرب أحواله فيظهر عليه حبه ، فإن وقع ذلك عن غير تمحل ، أو اكتساب فهو معذور ؛ لأنه مقهور وربما تشتعل من الحب نيرانه فلا يطاق سلطانه ، وقد يفيض القلب به فلا يندفع فيضانه .

فالقادر على الكتمان يقول :


وقالوا قريب قل ما أنا صانع بقرب شعاع الشمس لو كان في حجري     فما لي منه غير ذكر بخاطر
يهيج نار الحب والشوق في صدري

والعاجز عنه يقول .

يخفى :

فيبدي الدمع أسراره     ويظهر الوجد عليه النفس

ويقول أيضا:


ومن قلبه مع غيره كيف حاله     ومن سره في جفنه كيف يكتم

وقد قال بعض العارفين أكثر الناس من الله بعدا أكثرهم إشارة به .

كأنه أراد من يكثر التعريض به في كل شيء ويظهر التصنع بذكره عند كل أحد فهو ممقوت عند المحبين والعلماء بالله عز وجل ودخل ذو النون المصري على بعض إخوانه ممن كان يذكر المحبة فرآه مبتلى ببلاء ، فقال لا يحبه من وجد ألم ضره فقال الرجل : لكني أقول : لا يحبه من لم يتنعم بضره فقال ذو النون ولكني : أقول : لا يحبه من شهر نفسه بحبه ، فقال الرجل أستغفر الله وأتوب إليه .

فإن قلت : المحبة منتهى المقامات وإظهارها إظهار للخير ، فلماذا يستنكر فاعلم أن المحبة محمودة ، وظهورها محمود أيضا ، وإنما المذموم التظاهر بها لما يدخل فيها من الدعوى والاستكبار وحق المحب أن ينم على حبه الخفي أفعاله وأحواله دون أقواله وأفعاله .

وينبغي أن يظهر حبه من غير قصد منه إلى إظهار الحب ولا إلى إظهار الفعل الدال على الحب ، بل ينبغي أن يكون قصد المحب إطلاع الحبيب فقط ، فأما إرادته إطلاع غيره فشرك في الحب .

وقادح فيه ، كما ورد في الإنجيل : إذا تصدقت فتصدق بحيث لا تعلم شمالك ما صنعت يمينك .

فالذي يرى الخفيات يجزيك علانية ، وإذا صمت فاغسل وجهك وادهن رأسك لئلا يعلم بذلك غير ربك .

فإظهار القول والفعل كله مذموم إلا إذا غلب سكر الحب فانطلق اللسان واضطربت الأعضاء فلا يلام فيه صاحبه .

حكي أن رجلا رأى من بعض المجانين ما استجهله فيه ، فأخبر بذلك معروفا الكرخي رحمه الله فتبسم ثم قال : يا أخي له محبون صغار وكبار وعقلاء ومجانين ؛ فهذا الذي رأيته من مجانينهم .

التالي السابق


(ومنها) ، أي: ومن علامات المحبة (كتمان الحب) للغيرة والستر لنفيس الذخيرة (واجتناب الدعوى) فإنها كما قالوا فضيحة، ولو كانت نصيحة (والتوقي من إظهار الوجد والمحبة تعظيما للمحبوب وإجلالا [ ص: 633 ] له وهيبة منه وغيرة على سره؛ فإن الحب سر من أسرار الحبيب، ولأنه قد يدخل في الدعوى ما يتجاوز حد المعنى ويزيد عليه، فيكون ذلك من الافتراء، وتعظم العقوبة عليه في العقبى وتتعجل عليه البلوى في الدنيا) ، وقد قرن الله الدعوة بفرية الكذب؛ لأنها كذب القلب بمنزلة كذب اللسان في قوله: ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ونهى عنها كنهيه عن التولي عنه في قوله: ولا تولوا عنه ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون (نعم؛ قد يكون للمحب سكرة في حبه حتى يدهش فيه وتضطرب أحواله فيظهر عليه حبه، فإن وقع ذلك منه من غير تمحل) ، أي: تكلف (أو اكتساب فإنه معذور؛ لأنه مقهور) قال بعض المحبين: ورد على حال التعظيم أخرسني عن الكلام والتفهيم بما لا أصفه صفة من الإجلال والعظمة، فحكم علي، فلما تحكم وملكني فلم أتملك ولم أتكلم، فلو شيء من حق الله تعالى كان إلي وقدرت عليه لم آذن لأحد من أهل السموات والأرضين من ملك مقرب ولا نبي مرسل أن يقول: الله؛ إذ كل قائل فيما قول، وكل قريب من حيث قرب، وكل عارف فيما عرف، وكل الكل محجوب عن كنه القرب وعن حقيقة التوحيد، ومن عظمة التعظيم فلن يستطيع أحد أن يقول: الله، فمكثت سنة لا أتكلم وسمعت رجفان قلبي في صدري وزواله عن مستقره إلى نحري، ويحك! أما سمعته يقول: إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم فهذا وجل القلوب من ذكر غافل سمعوه فكيف بذكر ذاكر ذكروه؟! فما قال التوحيد إلا الواحد وما قال الله إلا الله ثم ذكر الباقي؛ فهذا الذي حال في مقام بعينه بمشاهدة عين من عظمته منفرد المنفرد، وقرب عن وصف قريب متحد بموحد، والتوحيد والتفريد وراء هذا، والاتحاد والأحدية والانفراد والوحدانية فوق ذلك، والآحاد والأفراد المفردون بما أفردوا وما وحدوا بما وحدوا الذاكرون بذكره الذي به ذكروا، والمسبحون بسبحاته التي بها سبحوا هم حجاب هذا المقام وخزان هذا المعنى، كشفهم لهذا السر هو منهم كفر، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون فوقفوا مع الأمر لغلبة القهر وسكنوا لأجل الحمد فرسموا له الحد، وإليه أشار المصنف بقوله: (وربما تشتعل من الحب نيرانه فلا يطاق سلطانه، وقد يفيض القلب به فلا يندفع فيضانه؛ فالقادر على الكتمان يقول:

وقالوا قريب قلت ما أنا صانع بقرب شعاع الشمس لو كان في حجري فما لي منه غير ذكر بخاطر
يهيج نار الحب والشوق في صدري

والعاجز عنه يقول:

يخفي فيبدي الدمع أسراره ويظهر الوجد عليه النفس )

، وذلك أن العبد إذا قهرته الأحوال وعلت على قلبه وأحس من نفسه العجز عن حملها تنفس إما صعداء وإما تنغص بما هو فيه بكلام أو إشارة؛ لأنه ما دام حيا لا بد أن يتروح بدخول النفس وخروجه، وناهيك بهذه الحالة فإنها حالة أهل الجنة؛ إذ جاء في الخبر أن الذكر يجري منهم مجرى النفس (ويقول أيضا:

ومن قلبه مع غيره كيف حاله ومن سره في جفنه كيف يكتم

وقد قال بعض العارفين) من المحبين: (أكثر الناس من الله -عز وجل- بعدا أكثرهم إشارة به كأنه أراد) أن (من يكثر التعريض به في كل شيء ويكثر التصنع بذكره عند كل أحد فهو ممقوت عند المحبين والعلماء بالله عز وجل) لنقص مقامه في المحبة (ودخل ذو النون المصري) رحمه الله تعالى (على بعض إخوانه ممن كان يذكر المحبة) ويشير إليها ويتعرض لها بالإشارة والعبارة (فرآه مبتلى ببلاء، فقال) ذو النون: (لا يحبه من وجد ألم ضرره) كأنه رآه مضطربا من ذلك البلاء (فقال الرجل: لكني أقول: لا يحبه من لم يتنعم بضره) كأنه أشار إلى أنه غير مضطرب باطنا (فقال ذو النون: ولكني أقول: لا يحبه من شهر نفسه بحبه، فقال الرجل) لما سمع ذلك منه (أستغفر الله وأتوب إليه) فقد أرشده إلى كتمان الحب وعدم إفشائه .

(فإن قلت: المحبة منتهى المقامات) وبها تكمل المقامات (وإظهارها إظهار للخير، فلماذا يستنكر) ويؤمر بالكتمان (فاعلم أن المحبة [ ص: 634 ] محمودة، وظهورها محمود أيضا، وإنما المذموم التظاهر بها لما يدخل فيها من الدعوى والاستكبار) على الإخوان (وحق المحب) الصادق (أن يتم على حبه الخفي) في صدره (أفعاله وأحواله دون أقواله) بصريح العبارات والإشارات، فإنها لا تخلو من الدعاوى (وأفعاله ينبغي أن يظهر حبه من غير قصد منه إلى إظهار الحب) المكتوم (ولا إلى إظهار الفعل الدال على الحب، بل ينبغي أن يكون قصد المحب اطلاع الحبيب فقط، فأما إرادته اطلاع غيره فشرك في الحب وقادح فيه، كما ورد في الإنجيل: إذا تصدقت فتصدق بحيث لا تعلم شمالك ما صنعت يمينك؛ فالذي يرى الخفيات يجزيك به علانية، وإذا صمت فاغسل وجهك وادهن رأسك لئلا يعلم بذلك غير ربك) روى أحمد في الزهد عن هلال بن يساف قال: كان عيسى -عليه السلام- يقول: إذا تصدق أحدكم بيمينه فليخفها عن شماله، وإذا صلى فليدن عليه ستر بابه؛ فإن الله يقسم الثناء كما يقسم الرزق. وروى عبد الله بن أحمد في زيادات الزهد من طريق مسروق عن ابن مسعود قال: إذا أصبح أحدكم صائما، أو قال: إذا كان أحدكم صائما فليترجل، وإذا تصدق صدقة بيمينه فليخفها عن شماله، وإذا صلى صلاة أو صام تطوعا فليصلها في داخله، وقد تقدم .

(فإظهار الفعل والقول كله مذموم إلا إذا غلب عليه سكر الحب فانطلق اللسان واضطربت الأعضاء فلا يلام فيه صاحبه) فإنه مقهور عليه (حكي أن رجلا رأى من بعض المجانين ما استجهله فيه) ، أي: عدم جهلا وجنونا (فأخبر بذلك معروفا الكرخي -رحمه الله تعالى- فتبسم) معروف (ثم قال: يا أخي له محبون صغار وكبار وعقلاء ومجانين؛ فهذا الذي رأيته من مجانينهم) فلم يخرجه من حد المحبة؛ إذ طاش عقله من سكره وتكلم بما يعيب عليه سامعه، فالأولى الأدب معهم ولا يقيس حالهم بسواهم، كما أرشد إليه معروف -رحمه الله تعالى- .




الخدمات العلمية