الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
ومما يكره التظاهر بالحب بسبب أن المحب إن كان عارفا وعرف أحوال الملائكة في حبهم الدائم وشوقهم اللازم الذي به يسبحون الليل والنهار لا يفترون ولا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون لاستنكف من نفسه ومن إظهار حبه وعلم قطعا أنه من أخس المحبين في مملكته وأن حبه أنقص من حب كل محب لله .

قال بعض الكاشفين من المحبين : عبدت الله تعالى ثلاثين سنة بأعمال القلوب والجوارح ، على بذل المجهود واستفراغ الطاقة ، حتى ظننت أن لي عند الله شيئا ، فذكر أشياء من مكاشفات آيات السموات ، في قصة طويلة قال في آخرها : فبلغت صفا من الملائكة بعدد جميع ما خلق الله من شيء ، فقلت : من أنتم ؟ فقالوا : نحن المحبون لله : عز وجل : نعبده هاهنا منذ ثلاثمائة ألف سنة ما خطر على قلوبنا قط سواه ولا ذكرنا غيره ، قال : فاستحييت من أعمالي فوهبتها لمن حق عليه الوعيد تخفيفا عنه في جهنم .

فإذا ، من عرف نفسه وعرف ربه واستحيا منه حق الحياء خرس لسانه عن التظاهر بالدعوى .

نعم ؛ يشهد على حبه حركاته وسكناته وإقدامه وإحجامه وتردداته ، كما حكي عن الجنيد أنه قال : مرض أستاذنا السري رحمه الله فلم نعرف لعلته دواء ولا عرفنا لها سببا فوصف لنا طبيب حاذق فأخذ ، قارورة مائه ، فنظر إليها الطبيب وجعل ينظر إليه مليا ، ثم قال لي : أراه بول عاشق قال الجنيد : فصعقت وغشي علي ووقعت القارورة من يدي ، ثم رجعت إلى السري فأخبرته ؛ فتبسم ، قال : قاتله الله ! ما أبصره ! قلت : يا أستاذ وتبين ، المحبة في البول ؟! قال : نعم .

وقد قال السري مرة لو : شئت أقول ما أيبس جلدي على عظمي ولا سل جسمي إلا حبه ، ثم غشي عليه .

وتدل الغشية على أنه أفصح في غلبة الوجد ومقدمات الغشية فهذه مجامع علامات الحب وثمراته .

ومنها الأنس والرضا ، كما سيأتي .

التالي السابق


(ومما يكره التظاهر بالحب بسبب أن المحب إن كان عارفا) بالله تعالى ولا بد أن يكون كذلك؛ فإن المحبة ثمرة المعرفة (وعرف أحوال الملائكة) عليهم السلام (في حبهم الدائم وشوقهم اللازم الذي به يسبحون الليل والنهار لا يفترون ولا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون لاستنكف من نفسه ومن إظهار حبه وعلم قطعا أنه أخس المحبين في مملكته) وأقلهم (وأن حبه أنقص من حب كل محب لله تعالى) ، ومن ذلك (قال بعض المكاشفين من المحبين: عبدت الله ثلاثين سنة بأعمال القلوب والجوارح) ، أي: من الذكر والمراقبة والأعمال الظاهرة (على بذل المجهود واستفراغ الطاقة، حتى ظننت أن لي عند الله شيئا) ، أي: مقاما مقربا بسبب تلك الطاعات (فذكر أشياء من مكاشفات آيات السموات) ، أي: آيات ملكوتها (في قصة طويلة قال في آخرها: فبلغت صفا من الملائكة بعدد جميع ما خلق الله من شيء، فقلت: من أنتم؟ فقالوا: نحن المحبون لله -عز وجل- نعبده هاهنا منذ ثلاثمائة ألف سنة ما خطر على قلوبنا قط سواه ولا ذكرنا غيره، قال: فاستحييت من أعمالي) واستحقرتها بجنب أعمالهم (فوهبتها لمن حق عليه الوعيد) ، أي: كلمة العذاب (تخفيفا عنهم في جهنم، فإذا من عرف نفسه وعرف ربه واستحيا منه حق الحياء خرس لسانه عن التظاهر بالدعوى) فلا يدعي لنفسه مقاما ولا حالا (نعم؛ يشهد على حبه حركاته وسكناته وإقدامه وإحجامه وتردداته، كما حكي عن الجنيد) -قدس سره- (أنه قال: مرض أستاذنا السري) السقطي (رحمه الله تعالى فلم نجد لعلته دواء ولا عرفنا لها سببا) حتى نهتدي به إلى الدواء [ ص: 635 ] (فوصف لنا طبيب حاذق) ، أي: ماهر في صنعته (فأخذنا) إليه (قارورة مائه، فنظر إليه الطبيب وجعل ينظر مليا، ثم قال لي: أراه بول عاشق) قد فتت كبده (قال الجنيد: فصعقت وغشي علي) من سماع ذلك القول (ووقعت القارورة من يدي، ثم رجعت إلى السري فأخبرته؛ فتبسم، ثم قال: قاتله الله! ما أبصره! قلت: يا أستاذ، وتتبين المحبة في البول؟! قال: نعم) ؛ لأن الشوق والعشق يؤثران في الكبد فيفتتانه؛ فينزل الماء أبيض صافيا براقا، ومن هنا قال الجنيد: قال رجل للسري: كيف أنت؟ فأنشد يقول:

من لم يبت والحب حشو فؤاده لم يدر كيف تفتت الأكباد

قال: ودفع إلى السري رقعة مرة، وقال: احفظ هذه الرقعة، فإذا فيها:

ولما شكوت الحب قالت كذبتني فما لي أرى الأعضاء منك كواسيا؟!
فما الحب حتى يلصق الجنب بالحشا وتذبل حتى لا تجيب المناديا
وتنحل حتى لا يبقى لك في الهوى سوى مقلة تبكي بها وتناديا

(وقد قال السري مرة: ولو شئت أقول ما أيبس جلدي على عظمي ولا سل جسمي إلا حبه، ثم غشي عليه) ولفظ البيهقي في الشعب عن الجنيد قال: سمعت السري يقول: وقد كلمته يوما بشيء من المحبة فضرب يده إلى جلدة ذراعه فمدها، ثم قال: والله إن قلت إن هذا جف على هذا من محبة الله لصدقت، ثم أغمي عليه، ثم تورد وجهه حتى صار مثل القمر (وتدل الغشية على أنه أفصح في غلبة الوجد ومقدمات الغشية) ، وإن كان مقهورا (فهذه أربع مجامع علامات الحب وثمراته، ومنها الأنس والرضا، كما سيأتي) قريبا، وحاصله أن يكون المحب مستأنسا راضيا بقضاء الله، وكلما كان أحب كان أرضى، فأول درجات الرضا الداخلة تحت التكليف أن يكره المصيبة بطبعه ويرضى بفعله، والثانية أن يرضى بطبعه وعقله من غير سرور، والثالثة سروره بما يجري موافقة لمحبة الله فيما أبدع وحكم، والرابعة أن لا يحس بما يجري عليه لفناء صفاته في صفات محبوبه، وهذه أشرفها وأعزها وقوعا؛ فهذه عشر علامات أوردها المصنف وهي على عدد معاني المحبة العشرة التي ذكرها الحليمي في شعب الإيمان؛ حيث قال: محبة الله تبارك وتعالى اسم لمعان كثيرة:

أحدها اعتقاد أنه تعالى محمود من كل وجه لا شيء من صفاته إلا وهو مدحة له .

والثاني: اعتقاد أنه محسن لعباده منعم متفضل عليهم .

والثالث: اعتقاد أن الإحسان الواقع منه أجل وأكثر من أن يحصيه قول العبد وعمله وإن كثر شكره .

والرابع: أن لا [تبقيته] يستقل العبد قضاياه ولا يستكثر تكاليفه .

والخامس: أن يكون في عامة الأوقات مشفقا وجلا من إعراضه عنه وشكر معرفته التي أكرمه بها وتوحيده الذي حلاه وزينه به .

والسادس: أن تكون آماله معقودة به لا يراه في حال من الأحوال أنه غني عنه .

والسابع: أن يحمله تمكن هذه المعاني في قلبه على أن يديم ذكره بأحسن ما يقدر عليه .

والثامن: أنه يحرص على أداء فرائضه والتقرب إليه في نوافل الخير وما يطيقه .

والتاسع: أنه إن سمع من أحد ثناء عليه وعرف منه تقربا إليه وجهادا في سبيله سرا وعلانية مالاه ووالاه .

والعاشر: أنه إن سمع من أحد ذكرا له بما يجله عنه، أو عرف منه غيا عن سبيله سرا وعلانية ناداه، فإذا اجتمعت هذه المعاني في قلب أحد اجتماعها هو المشار إليه باسم محبة الله تعالى، وهي إن لم تذكر مجتمعه في موضع فقد جاءت متفرقة من النبي -صلى الله عليه وسلم- فمن دونه. انتهى .



وقد بقيت للمحبة دلائل وعلامات لم يذكرها المصنف صراحة، وإن كان بعض منها مذكورا ضمانا، فمن ذلك تقديم أمور الآخرة في كل ما يقرب من الحبيب على أمور الدنيا من كل ما تهوى النفس، ومنها المبادرة بأوامر المحبوب ونواهيه قبل عاجل حظوظ النفس، ومنها التعزز على أبناء الدنيا المؤثرين لها، كما قيل لابن المبارك: ما التواضع؟ قال: التكبر على المتكبرين، وقال علي -رضي الله عنه- لفتح الموصلي في منام رآه: ما أحسن تواضع الأغنياء للفقراء رجاء ثواب الله! وأحسن من ذلك تيه الفقراء على الأغنياء ثقة بالله، ومنها المجاهدة في طريق المحبوب بالمال والنفس ليقرب منه ويبلغ مرضاته ويقطع كل قاطع يقطعه عنه بالمسارعة إلى قربه، كما قال تعالى مخبرا عن محبه:وعجلت إليك رب لترضى ، وكما أمر حبيبه -صلى الله عليه وسلم- في قوله تعالى: وتبتل إليه تبتيلا ، أي انقطع إليه [ ص: 636 ] انقطاعا عما سواه بالإخلاص له، أو اقطع كل قاطع حتى تصل إليه، فهذان من أدل الدليل على المحبة، ومنها أن لا يخاف في حبه لومة لائم من الخلق؛ لأنه على محبته على السلوك إليه بشبق النفس وهجر الدار ورفض المال، ولا يرجو في محبته مدح مادح ولا يرغب في ثناء العباد بإيثاره له على الأهل والمال والدار ومنها رؤية البلاء منه نعمة، كما قال قائلهم:

فلو قطعتني في الحب إربا لما حن الفؤاد إلى سواك

ومنها موافقة الحبيب فيما أحب حبا له، كما قال عمر لصهيب: رحم الله صهيبا، لو لم يخف الله لم يعصه، أي إن محبته له تمنع مخالفته من غير خيفة فهو يطيعه حبا له، وكان صهيب يقول إنه لا يستخرجه غيره يعني من معاني الصفات والأفعال المرجوة، ومنها وجود الروح بالشكوى إليه والاستراحة إلى علمه به وحده وإخلاص المعاملة لوجهه وحسن الأدب فيها، وهو الإخفاء لها وكتم ما يحكم به من الضيق والشدائد وإظهار ما ينعم به من الألطاف والفوائد وكثرة الشكر في نعمائه وخفي ألطافه وغرائب صنعته وعجائب قدرته وحسن الثناء عليه في كل حال، ونشر الآلاء منه والأفضال والصبر على بلائه قد صار في أهله وأوليائه، وقد يعسف بأوليائه ويعنف بأحبائه لتمكنه منهم ومكانتهم عنده ولعلمه أنهم لا يريدون بدلا ولا يبغون عنه حولا؛ إذ ليس لهم بغية في سواه ولا لهم همة إلا إياه، وقال بعضهم في هذا المقام:

يا بلائي ويا بلاء البلاء أنت دائي فكيف أكره دائي

وقال آخر في معناه:

لا تطلبن شفاء عند غيرهم ولا يجيبك إلا من توفاك

وقال المحب في معناه:

إن شئت جودي وأما شئت فامتنع كلاهما منك منسوب إلى الكرم
فأنت عندي وإن أورثتني سقما أحب من غيرك يشفي من السقم

ومنها المسارعة إلى ما تدب إليه من أنواع البر بوجد الحلاوة وشرح الصدر ودوام التشكي والحنين إليه وسبق النظر إلى الخالق في كل شيء وسرعة الرجوع إليه بكل شيء، ومنها التناصح بالحق والتواصي به والصبر على ذلك، ومنها أن لا يطلب بخدمته سواه وأن يجتمع في محبته وهواه، فلا يهوى إلا ما فيه رضا المولى ولا يقضي عليه مولاه إلا بما يهوى، قال بعضهم: إذا رأيته يوحشك من خلقه، فاعلم أنه يريد أن يؤنسك به .

وفي أخبار موسى -عليه السلام-: إذا رأيت التقي مشغولا في طلب الرب فقد ألهاه ذلك عما سواه، وكان الجنيد -رحمه الله تعالى- يقول: من علامة المحب في المكاره والأسقام هيجان المحبة وذكرها عند نزول البلاء؛ إذ هو لطف من مولاه، وقيل: القربة إلى محبوبه وقلة التأذي بكل بلاء يصيبه لغلبة الحب على قلبه، وقد كان بعض المحبين يقول: أصفى ما أكون ذكرا إذا كنت محموما .




الخدمات العلمية