وقيل : إنه وقع الحريق في السوق فقيل للسري احترق السوق وما احترق دكانك فقال : الحمد لله . ثم قال : كيف قلت الحمد لله على سلامتي : دون المسلمين فتاب من التجارة وترك الحانوت بقية عمره توبة واستغفارا من قوله الحمد لله .
فإذا تأملت هذه الحكايات عرفت قطعا أن
nindex.php?page=treesubj&link=19627الرضا بما يخالف الهوى ليس مستحيلا ، بل هو مقام عظيم من مقامات أهل الدين .
ومهما كان ذلك ممكنا في حب الخلق وحظوظهم كان ممكنا في حق حب الله تعالى وحظوظ الآخرة قطعا .
وإمكانه من وجهين ؛ أحدهما : الرضا بالألم لما يتوقع من الثواب الموجود ؛ كالرضا بالفصد والحجامة وشرب الدواء انتظارا للشفاء .
والثاني : الرضا به لا لحظ وراءه ، بل لكونه مراد المحبوب ورضا له ، فقد يغلب الحب بحيث ينغمر مراد المحب في مراد المحبوب ، فيكون ألذ الأشياء عنده سرور قلب محبوبه ورضاه ، ونفوذ إرادته ولو في هلاك روحه ، كما قيل .
فما لجرح إذا أرضاكم ألم وهذا ممكن مع الإحساس بالألم
وقد يستولي الحب بحيث يدهش عن إدراك الألم ؛ فالقياس والتجربة والمشاهدة .
دالة على وجوده ، فلا ينبغي أن ينكره من فقده من نفسه ؛ لأنه إنما فقده لفقد سببه ، وهو فرط حبه ، ومن لم يذق طعم الحب لم يعرف عجائبه فللمحبين عجائب أعظم مما وصفناه .
وقد روي عن
عمرو بن الحارث الرافعي قال : كنت في مجلس
بالرقة عند صديق لي ، وكان معنا فتى يتعشق جارية مغنية ، وكانت معنا في المجلس ، فضربت بالقضيب وغنت .
علامة ذل الهوى على العاشقين البكا
ولا سيما عاشق إذا لم يجد مشتكى
فقال لها الفتى : أحسنت والله يا سيدتي ، أفتأذنين لي أن أموت ؟ فقالت : مت راشدا . قال : فوضع رأسه على الوسادة وأطبق فمه وغمض عينيه فحركناه ، فإذا هو ميت .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14020الجنيد رأيت رجلا متعلقا بكم صبي وهو يتضرع إليه ويظهر له المحبة ، فالتفت إليه الصبي وقال له : إلى متى ذا النفاق الذي تظهر لي ؟ فقال قد علم الله أني صادق فيما أورده حتى لو قلت لي مت لمت . فقال : إن كنت صادقا فمت . قال : فتنحى الرجل وغمض عينيه فوجد ميتا . وقال
سمنون المحب كان في جيراننا رجل وله جارية يحبها غاية الحب ، فاعتلت الجارية ، فجلس الرجل ليصلح لها حيسا فبينا هو يحرك القدر ؛ إذ قالت الجارية : آه . قال : فدهش الرجل وسقطت الملعقة من يده ، وجعل يحرك ما في القدر بيده حتى سقطت أصابعه فقالت الجارية : ما هذا ؟ قال : هذا مكان قولك آه .
وحكي . عن
محمد بن عبد الله البغدادي قال : رأيت
بالبصرة شابا على سطح مرتفع ، وقد أشرف على الناس ، وهو يقول :
من مات عشقا فليمت هكذا لا خير في عشق بلا موت
ثم رمى بنفسه إلى الأرض فحملوه ميتا .
فهذا وأمثاله قد يصدق به في حب المخلوق ، والتصديق به في
nindex.php?page=treesubj&link=28683حب الخالق أولى ؛ لأن البصيرة الباطنة أصدق من البصر الظاهر ، وجمال الحضرة الربانية أوفى من كل جمال ، بل كل جمال في العالم فهو حسنة من حسنات ذلك الجمال .
نعم الذي فقد البصر ينكر جمال الصور ، والذي فقد السمع ينكر لذة الألحان والنغمات الموزونة ، فالذي فقد القلب لا بد وأن ينكر أيضا هذه اللذات التي لا مظنة لها سوى القلب .
وَقِيلَ : إِنَّهُ وَقَعَ الْحَرِيقُ فِي السُّوقِ فَقِيلَ لِلسَّرِيِّ احْتَرَقَ السُّوقُ وَمَا احْتَرَقَ دُكَّانُكَ فَقَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ . ثُمَّ قَالَ : كَيْفَ قُلْتَ الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى سَلَامَتِي : دُونَ الْمُسْلِمِينَ فَتَابَ مِنَ التِّجَارَةِ وَتَرَكَ الْحَانُوتَ بَقِيَّةَ عُمْرِهِ تَوْبَةً وَاسْتِغْفَارًا مِنْ قَوْلِهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ .
فَإِذَا تَأَمَّلْتَ هَذِهِ الْحِكَايَاتِ عَرَفْتَ قَطْعًا أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=19627الرِّضَا بِمَا يُخَالِفُ الْهَوَى لَيْسَ مُسْتَحِيلًا ، بَلْ هُوَ مَقَامٌ عَظِيمٌ مِنْ مَقَامَاتِ أَهْلِ الدِّينِ .
وَمَهْمَا كَانَ ذَلِكَ مُمْكِنًا فِي حُبِّ الْخَلْقِ وَحُظُوظِهِمْ كَانَ مُمْكِنًا فِي حَقِّ حُبِّ اللَّهِ تَعَالَى وَحُظُوظِ الْآخِرَةِ قَطْعًا .
وَإِمْكَانُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ ؛ أَحَدُهُمَا : الرِّضَا بِالْأَلَمِ لِمَا يَتَوَقَّعُ مِنَ الثَّوَابِ الْمَوْجُودِ ؛ كَالرِّضَا بِالْفَصْدِ وَالْحِجَامَةِ وَشُرْبِ الدَّوَاءِ انْتِظَارًا لِلشِّفَاءِ .
وَالثَّانِي : الرِّضَا بِهِ لَا لِحَظٍّ وَرَاءَهُ ، بَلْ لِكَوْنِهِ مُرَادَ الْمَحْبُوبِ وَرِضًا لَهُ ، فَقَدْ يَغْلِبُ الْحُبُّ بِحَيْثُ يَنْغَمِرُ مُرَادُ الْمُحِبِّ فِي مُرَادِ الْمَحْبُوبِ ، فَيَكُونُ أَلَذُّ الْأَشْيَاءِ عِنْدَهُ سُرُورَ قَلْبِ مَحْبُوبِهِ وَرِضَاهُ ، وَنُفُوذَ إِرَادَتِهِ وَلَوْ فِي هَلَاكِ رُوحِهِ ، كَمَا قِيلَ .
فَمَا لِجُرْحٍ إِذَا أَرْضَاكُمْ أَلَمٌ وَهَذَا مُمْكِنٌ مَعَ الْإِحْسَاسِ بِالْأَلَمِ
وَقَدْ يَسْتَوْلِي الْحُبُّ بِحَيْثُ يُدْهِشُ عَنْ إِدْرَاكِ الْأَلَمِ ؛ فَالْقِيَاسُ وَالتَّجْرِبَةُ وَالْمُشَاهَدَةُ .
دَالَّةٌ عَلَى وُجُودِهِ ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُنْكِرَهُ مَنْ فَقَدَهُ مِنْ نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا فَقَدَهُ لِفَقْدِ سَبَبِهِ ، وَهُوَ فَرْطُ حُبِّهِ ، وَمَنْ لَمْ يَذُقْ طَعْمَ الْحُبِّ لَمْ يَعْرِفْ عَجَائِبَهُ فَلِلْمُحِبِّينَ عَجَائِبُ أَعْظَمُ مِمَّا وَصَفْنَاهُ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ
عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ الرَّافِعِيِّ قَالَ : كُنْتُ فِي مَجْلِسٍ
بِالرَّقَّةِ عِنْدَ صَدِيقٍ لِي ، وَكَانَ مَعَنَا فَتًى يَتَعَشَّقُ جَارِيَةً مُغَنِّيَةً ، وَكَانَتْ مَعَنَا فِي الْمَجْلِسِ ، فَضَرَبَتْ بِالْقَضِيبِ وَغَنَّتْ .
عَلَامَةُ ذُلِّ الْهَوَى عَلَى الْعَاشِقِينَ الْبُكَا
وَلَا سِيَّمَا عَاشِقٍ إِذَا لَمْ يَجِدْ مُشْتَكَى
فَقَالَ لَهَا الْفَتَى : أَحَسَنْتِ وَاللَّهِ يَا سَيِّدَتِي ، أَفَتَأْذَنِينَ لِي أَنْ أَمُوتَ ؟ فَقَالَتْ : مُتْ رَاشِدًا . قَالَ : فَوَضَعَ رَأْسَهُ عَلَى الْوِسَادَةِ وَأَطْبَقَ فَمَهُ وَغَمَّضَ عَيْنَيْهِ فَحَرَّكْنَاهُ ، فَإِذَا هُوَ مَيِّتٌ .
وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=14020الْجُنَيْدُ رَأَيْتُ رَجُلًا مُتَعَلِّقًا بِكُمِّ صَبِيٍّ وَهُوَ يَتَضَرَّعُ إِلَيْهِ وَيُظْهِرُ لَهُ الْمَحَبَّةَ ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ الصَّبِيُّ وَقَالَ لَهُ : إِلَى مَتَى ذَا النِّفَاقُ الَّذِي تُظْهِرُ لِي ؟ فَقَالَ قَدْ عَلِمَ اللَّهُ أَنِّي صَادِقٌ فِيمَا أَوْرَدَهُ حَتَّى لَوْ قُلْتَ لِي مُتْ لَمُتُّ . فَقَالَ : إِنْ كُنْتَ صَادِقًا فَمُتْ . قَالَ : فَتَنَحَّى الرَّجُلُ وَغَمَّضَ عَيْنَيْهِ فَوُجِدَ مَيِّتًا . وَقَالَ
سَمْنُونُ الْمُحِبُّ كَانَ فِي جِيرَانِنَا رَجُلٌ وَلَهُ جَارِيَةٌ يُحِبُّهَا غَايَةَ الْحُبِّ ، فَاعْتَلَّتِ الْجَارِيَةُ ، فَجَلَسَ الرَّجُلُ لِيُصْلِحَ لَهَا حَيْسًا فَبَيْنَا هُوَ يُحَرِّكُ الْقِدْرَ ؛ إِذْ قَالَتِ الْجَارِيَةُ : آهٍ . قَالَ : فَدُهِشَ الرَّجُلُ وَسَقَطَتِ الْمِلْعَقَةُ مِنْ يَدِهِ ، وَجَعَلَ يُحَرِّكُ مَا فِي الْقِدْرِ بِيَدِهِ حَتَّى سَقَطَتْ أَصَابِعُهُ فَقَالَتِ الْجَارِيَةُ : مَا هَذَا ؟ قَالَ : هَذَا مَكَانُ قَوْلِكَ آهٍ .
وَحُكِيَ . عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَغْدَادِيِّ قَالَ : رَأَيْتُ
بِالْبَصْرَةِ شَابًّا عَلَى سَطْحٍ مُرْتَفِعٍ ، وَقَدْ أَشْرَفَ عَلَى النَّاسِ ، وَهُوَ يَقُولُ :
مَنْ مَاتَ عِشْقًا فَلْيَمُتْ هَكَذَا لَا خَيْرَ فِي عِشْقٍ بِلَا مَوْتِ
ثُمَّ رَمَى بِنَفْسِهِ إِلَى الْأَرْضِ فَحَمَلُوهُ مَيِّتًا .
فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ قَدْ يُصَدَّقُ بِهِ فِي حُبِّ الْمَخْلُوقِ ، وَالتَّصْدِيقُ بِهِ فِي
nindex.php?page=treesubj&link=28683حُبِّ الْخَالِقِ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ الْبَصِيرَةَ الْبَاطِنَةَ أَصْدَقُ مِنَ الْبَصَرِ الظَّاهِرِ ، وَجَمَالُ الْحَضْرَةِ الرَّبَّانِيَّةِ أَوْفَى مِنْ كُلِّ جَمَالٍ ، بَلْ كُلُّ جَمَالٍ فِي الْعَالَمِ فَهُوَ حَسَنَةٌ مِنْ حَسَنَاتِ ذَلِكَ الْجَمَالِ .
نَعَمِ الَّذِي فَقَدَ الْبَصَرَ يُنْكِرُ جَمَالَ الصُّوَرِ ، وَالَّذِي فَقَدَ السَّمْعَ يُنْكِرُ لَذَّةَ الْأَلْحَانِ وَالنَّغَمَاتِ الْمَوْزُونَةِ ، فَالَّذِي فَقَدَ الْقَلْبَ لَا بُدَّ وَأَنْ يُنْكِرَ أَيْضًا هَذِهِ اللَّذَّاتِ الَّتِي لَا مَظِنَّةَ لَهَا سِوَى الْقَلْبِ .