قال "الوجه السادس : يخص القائلين بحدوث القول ، وذلك أنهم وافقوا على أن القول مركب من حروف منتظمة ، والحروف متضادة ، فإنا كما نعلم استحالة الجمع بين السواد والبياض ، نعلم استحالة الجمع بين الحروف ، وأنه يتعذر الجمع بين الكاف والنون ، من قوله : (كن) . وقد وافقوا على استحالة تعري الباري عن الأقوال الحادثة في ذاته بعد قيامها به ، وعند ذلك فإما أن يقال باجتماع حروف القول في ذات الباري تعالى ، أو لا [ ص: 110 ] يقال باجتماعها فيه . فإن قيل باجتماعها : فإما أن يقال بتجزي ذات الباري تعالى ، وقيام كل حرف بجزء منه ، وإما أن يقال بقيامها بذاته مع اتحاد الذات . فإن كان الأول فهو محال لوجهين : الأول : أنه يلزم منه التركيب في ذات الله تعالى، وقد أبطلناه في الآمدي: . الثاني : أنه ليس اختصاص بعض الأجزاء ببعض الحروف دون البعض أولى من العكس . وإن كان الثاني ، فيلزم منه اجتماع المتضادات في شيء واحد وهو محال . وإن لم نقل باجتماع حروف القول في ذاته ، فيلزم منه مناقضة أصلهم في أن ما اتصف به الرب تعالى يستحيل عروه عنه بعد اتصافه به ، والحرف السابق الذي عدم عند وجود اللاحق قد كان صفة للرب وقد زال بعد وجوده له" . إبطال القول بالتجسيم
قلت : ولقائل أن يقول : هذا غايته أن يستلزم خطأهم في قولهم : إن ما يقوم به من الحوادث لا يخلو منه . [ ص: 111 ]
ولا ريب أن أكثر الناس يخالفونهم في هذا ، ولا يقولون بدوام الحادث المعين .
فمن قال بإثبات الاستواء والنزول ، وغيرهما من الأفعال القائمة بذاته ، المتعلقة بمشيئته وقدرته ، لا يقول : إن ذلك يدوم .
وكذلك أكثر القائلين بأن الله كلم موسى بنداء بصوت سمعه موسى ، والنداء بالصوت قائم بذات الله تعالى ، لا يقولون : إن ذلك النداء بعينه دائم أبدا ، ونظائره كثيرة .
وإذا كان كذلك ، فيقال: إما أن يكون بقاء الحادث الذي هو الحروف والأصوات ممكنا ، أو ممتنعا .
فإن كان ممكنا ، صح قول الكرامية . وإن كان ممتنعا ، صح قول من ينازعهم في دوام الحادث ويقول : إنه لا يبقى ، مع اتفاق الجميع على قيام الحوادث به .
وحينئذ فعلى التقديرين لا يلزم صحة قول المنازع النافي لقيام الحوادث به .
وأيضا فيقال: قول القائل: إنه يستحيل الجمع بين الحروف ، هو من موارد النزاع . فذهب طوائف إلى إمكان اجتماعها من القائلين بقدم الحروف ، والقائلين بحدوثها .
وهذا قول السالمية وغيرهم من القائلين باجتماعها مع قدمها ، وقول من قال باجتماعها مع حدوثها كالكرامية . [ ص: 112 ]
وقد قال بالأول : طوائف من أهل الحديث والفقه والكلام ، من أصحاب مالك والشافعي وغيرهم . وأحمد
وإذا كان هذا من موارد النزاع ، فإذا قال مثل هذا القائل: نحن نعلم استحالة اجتماع الحروف ، كما نعلم استحالة اجتماع الضدين كالسواد والبياض .
قيل له : فالذي تنصرهم أنت من الكلابية والأشعرية قالوا بأن المعاني، التي هي معاني الحروف المنتظمة ، هي معنى واحد في نفسه ، والأمر والنهي والخبر صفات لموصوف واحد ، فالذي هو الأمر هو الخبر ، والذي هو الخبر هو النهي، وقالوا: إن ذلك الواحد إن عبر عنه بالعربية كان قرآنا ، وإن عبر عنه بالعبرية كان توراة ، وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلا .
ولا ريب أن جمهور العقلاء من الأولين والأخرين القائلين بأن ، والقائلين بأنه مخلوق ، يقولون : إن فساد هذا القول معلوم بالضرورة من عدة أوجه : القرآن غير مخلوق
منها: كون الأمر هو عين الخبر .
ومنها: كون الخبر عن الخالق بمثل آية الكرسي هو الخبر عن المخلوق بمثل تبت يدا أبي لهب وتب . [ ص: 113 ]
ومنها: كون معاني التوراة إذا عربت تكون معاني القرآن، إلى أمثال ذلك .
ولهذا لم يقل هذا القول من طوائف المسلمين ولا غير المسلمين إلا ومن اتبعه . ابن كلاب
وهذا القول يتضمن أن تكون المعاني المتنوعة معنى واحدا . ولو قال : إن المعاني التي للحروف يمكن اجتماعها في زمن واحد ، كان أقرب إلى المعقول من كونها معنى واحدا .