الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأما قوله في الوجه الثاني : إن اختصاصه بحيزه : إما أن يكون لذاته، أو لمخصص من خارج . [ ص: 161 ]

فيقال : أتعني بالحيز شيئا معينا موجودا، أو شيئا معينا، سواء كان موجودا أو معدوما أو شيئا مطلقا ، فإن عنيت الأول فالرب سبحانه لا يجب أن يكون متحيزا بهذا الاعتبار عند المنازع، بل ولا عند طائفة معروفة . وإن عنيت الثاني لم يسلم المنازع كونه متحيزا بهذا الاعتبار ، وإن عنيت الثالث ، فيقال لك حينئذ: فليس اختصاصه بحيز معين من لوازم ذاته ، بل هو باختياره . وإذا كان يخصص بعض الأحياز بما شاء من مخلوقاته، فتصرفه بنفسه أعظم من تصرفه بمخلوقاته .

وأما قولك: "ليس هو أولى من تخصيص غيره من الجواهر به ضرورة المساواة في المعنى" .

فكلام ساقط لوجوه :

أحدها : أن الله يخص ما شاء من الأحياز بما شاء من الجواهر ، ولا يقال : ليس هذا أولى من هذا، فكيف يقال : إنه ليس أولى من بعض مخلوقاته بما هو قادر عليه مختار له؟

والثاني: أن يقال : فما من جوهر إلا وله حيز يختص به دون غيره من الجواهر، سواء قيل : إنه حيزه الطبيعي أو لا، فعلم أن مجرد الاشتراك في الجوهرية لا يستلزم الاشتراك في كل حيز . [ ص: 162 ]

الثالث : أن كل جوهر مختص عن غيره بصفة تقوم به، ومقدار يخصه مع اشتراكها في الجوهرية فكيف لا يختص بحيزه؟

الرابع : أن الحيز ليس أمرا وجوديا ، وإنما هو أمر عدمي. والجواهر الموجودة لا بد أن يكون لبعضها نسبة إلى بعض بالعلو والسفول، والتيامن والتياسر، والملاقاة والمباينة، ونحو ذلك. وكل منها مختص من ذلك بما هو مختص به، لا تشاركه فيه سائر الجواهر، فكيف يجب أن يشارك المخلوق لخالقه؟

الخامس : أن هذا مبني على تماثل الجواهر ، وهو ممنوع، بل هو مخالف للحس، وسيأتي كلامه في إبطاله .

السادس : أنا لو فرضنا الجواهر متماثلة ، فالمخصص لكل منها بما يختص به هو مشيئة الرب وقدرته، وإذا كان بقدرته ومشيئته يصرف مخلوقاته ، فكيف لا يتصرف هو بقدرته ومشيئته ، كما أخبرت عنه رسله، وكما أنزل بذلك كتبه؟ حيث أخبر أنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم أستوى على العرش ، وأمثال ذلك من النصوص .

وأما قوله : "إن كان غير متحيز لزم أن يكون كل جوهر غير متحيز" فعنه جوابان :

أحدهما : أن يقال له ولأمثاله كالرازي والشهرستاني ونحوهما من [ ص: 163 ] المتأخرين الذين أثبتوا جواهر معقولة غير متحيزة موافقة للفلاسفة الدهرية، أو قالوا : إنه دليل على نفي ذلك : أنتم إذا ناظرتم الملاحدة المكذبين للرسل فادعوا إثبات جواهر غير متحيزة عجزتم عن دفعهم أو فرطتم ، فقلتم : لا نعلم دليلا على نفيها ، أو قلتم بإثباتها وإذا ناظرتم إخوانكم المسلمين الذين قالوا بمقتضى النصوص الإلهية والطريقة السلفية وفطرة الله التي فطر عباده عليها ، والدلائل العقلية السليمة عن المعارض ، وقالوا : إن الخالق تعالى فوق خلقه ، سعيتم في نفي لوازم هذا القول وموجباته ، وقلتم : لا معنى للجوهر إلا المتحيز بذاته ، فإن كان هذا القول حقا فادفعوا به الفلاسفة الملاحدة ، وإن كان باطلا فلا تعارضوا به المسلمين . أما كونه يكون حقا إذا دفعتم ما يقوله إخوانكم المسلمون ، ويكون باطلا إذا عجزتم عن دفع الملاحدة في الدين فهذا طريق من بخس حظه من العقل والدين ، وحسن النظر والمناظرة عقلا وشرعا .

والجواب الثاني : أنك قلت في أول هذا الوجه : إما أن تكون ذاته قابلة لأن يشار إليها أنها ههنا أو هناك ، أو لا تكون قابلة . ثم قلت : فإن كان الأول فيكون متحيزا. فكان حقك أن تقول : وإن لم تكن ذاته قابلة [ ص: 164 ] للإشارة إليه لزم في كل جوهر أن لا يكون مشارا إليه، وأن لا يكون متحيزا .

وإذا قلت ذلك ، قيل لك : إثبات هؤلاء جوهرا لا يشار إليه هو قول المتفلسفة الذين يثبتون جواهر لا يشار إليها ، وقول النصارى الذين ينفون العلو .

وحينئذ فيقولون : لا نسلم أن كل جوهر فإنه يجب أن [يكون] مشارا إليه، وأنت قد اعترفت في بحثك مع الفلاسفة بهذا ، وهذا القول ، وإن كان باطلا، لكن المقصود تبيين ضعف حجج هؤلاء النفاة نفيا يستلزم نفي الصفات .

ويقال لك : إثبات جوهر لا يشار إليه كإثبات قائم بنفسه لا يشار إليه .

وإن قال : أنا ذكرت هذا لنفي كونه جوهرا كالجواهر .

فيقال : من قال هذا يقول : هو جوهر كالجواهر التي يدعي إثباتها من يقول بإثبات الجواهر العقلية المجردة ، فإنه هو جوهر كالجواهر العقلية المجردة ، فمن نفى هذه الجواهر أبطل قولهم، وإلا فلا . [ ص: 165 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية