ثم يقال : إذا قدرنا عدم هذه الصفات ، التي هي لازمة للأنواع وذاتية لها ، لم يبق هناك ، فإنا إذا نظرنا إلى هذا الإنسان، وقدرنا أنه ليس بحي ولا ناطق ولا ضاحك [ ص: 173 ] ولا حساس ولا متحرك بالإرادة، لم يعقل هنالك جوهر قائم بنفسه غيره تعرض له هذه الصفات ، بل إثبات ذلك نوع من الخيال الذي لا حقيقة له ، وهذا الخيال في الجواهر المحسوسة نظير خيال من أثبت الجواهر المعقولة ، لكن تلك محلها العقل ، وهذه محلها الخيال ، فإنا يمكننا تقدير هذا الشكل مع عدم كونه حيوانا ناطقا ، لكن حينئذ يكون المقدور شكلا مجردا، هو عرض من الأعراض ، وهو الذي يسمى الجسم التعليمي كما نقدر أعدادا مجردة عن المعدودات ، وهذه المقادير المجردة والأعداد المجردة لا وجود لها إلا في الأذهان واللسان ، وكل جسم موجود له قدر يخصه ، وهذه هي الجسمية والجوهرية التي يثبتها من يقول بعدم تماثل الجواهر ، وهي نظير الصورة الجسمية التي هي عرض من أعراض الجسم ، التي يثبتها من يقول بالمادة والصورة ، فدعوى أولئك أن الصورة الجسمية جوهر ، وأن المادة جوهر آخر ، هو نظير دعوى هؤلاء: أن الصورة الجسمية جواهر متماثلة ، وليس هنا إلا هذه الأعيان القائمة بأنفسها، وما قام بها من الصفات والمقادير، التي هي أشكالها وصورها . ما يعقل كونه جوهرا، لا مماثلا ولا مخالفا
ثم من العجيب أن هؤلاء المتكلمين المتأخرين ، [ ص: 174 ] كأبي حامد والشهرستاني، والرازي، وأمثالهم ، ممن يوافق أهل المنطق على صحة المنطق ، يوافقون أهل المنطق فيما يدعونه من انقسام صفات الجواهر والأجسام إلى ذاتي وعرضي ، وانقسام العرض إلى لازم للماهية وعارض لها، وانقسام العارض إلى لازم ومفارق ، مع ما في هذا الكلام من الخطأ ، فإن الصفات في الحقيقة إنما تنقسم إلى لازم للماهية وعارض لها . والآمدي،
وأما تقسيم اللازم إلى ذاتي وعرضي ، وإثبات شيئين في هذه الأعيان: أحدهما الذات ، والثاني هذا الموجود المشاهد ، فكلام باطل كما قد بسط في موضعه .
ثم إنهم في قولهم بتماثل الجواهر والأجسام يدعون أن جميع صفات الأجسام التي تختلف بها إنما هي عارضة لها قابلة لزوالها، ليس منها شيء لازم للحقيقة ، ولا هو من موجبات الذات ومقتضياتها، فيا سبحان الله ، أين ذلك التلازم الذي غلوتم فيه حتى تجعلوا الحقيقة مؤلفة من صفاتها الذاتية، وتقولون: إن الذات هي المقتضية للوازم ولوازم اللوازم؟
وهنا يقولون: ليس لهذه الأعيان حقيقة قائمة بنفسها إلا ما تشترك كلها فيه ، وليس لشيء منها لازم يخصه، ولا لازم يفارق [ ص: 175 ] به غيره ، بل ليست اللوازم إلا ما لزم جميع ما يسمى جوهرا وجسما .
وهذا المعنى قد رأيت منه عجائب لهؤلاء النظار ، يتكلم كل منهم مع كل قوم على طريقتهم بكلام يناقض ما تكلم به على طريقة أولئك ، مع تناقض كل من القولين في نفس الأمر ، وهذا إما أن يكون لكونه لم يفهم أن هذا المعنى الذي أثبته بهذه العبارة هو الذي نفاه بتلك، فلا يكون قد تصور حقيقة ما يقول ، بل تصور ما يتقيد باللفظ بحيث إذا خرج المعنى عن ذلك اللفظ لم يعرف أنه هو ، وهذا قبيح بمن يدعي النظر في العقليات المحضة التي لا تتقيد بلغة ولا لفظ ، وإما أن يكون مع نسيانه وذهوله في كل مقام لما قاله في المقام الآخر ، وهذا أشبه أن يظن بمن له عقل وتصور صحيح ، لكنه يدل على أن له في المسألة قولين ، وأنه يقول في كل مقام ما ترجح عنده في ذلك المقام ، لا يمشي مع الدليل مطلقا ، بل يتناقض، وإما أن يكون مع فهمه التناقض ، وحينئذ فإما أن لا يبالي بتناقض كلامه، وإما أن يرجح هذا في هذا الموطن وهذا في هذا الموطن .