وأما فإنه -وإن وافقهم على صحة الأصول المنطقية ، وخالف بذلك فحول النظار الذين هم أقعد بتحقيق النظر في الإلهيات ونحوها من أهل المنطق ، واتبعه على ذلك من سلك سبيله أبو حامد الغزالي كالرازي وذويه ، وأبي محمد بن البغدادي صاحب ابن المثنى وذويه- فقد بين في كتابه "تهافت الفلاسفة" وغيره من كتبه فساد قولهم في الإلهيات ، مع وزنه لهم بموازينهم المنطقية ، حتى [أنه] بين أنه لا حجة لهم على نفي التجسيم بمقتضى أصولهم المنطقية ، فضلا عن أن يكون لهم حجة على نفي الصفات مطلقا ، وإن كان قد يوجد في كلامه ما يوافقهم عليه تارة أخرى ، وبهذا [ ص: 282 ] تسلط عليه طوائف من علماء الإسلام ، ومن الفلاسفة أيضا، أبو حامد وغيره ، حتى أنشد فيه . كابن رشد
يوما يمان إذا ما جئت ذا يمن . . . وإن لقيت معديا فعدناني
فالاعتبار من كلامه وكلام غيره بما يقوم عليه الدليل ، وليس ذلك إلا فيما وافق فيه الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يقوم دليل صحيح على مخالفة الرسول ألبتة .
وهذا كما أن يوجد في كلامه ما يوافق ابن عقيل المعتزلة والجهمية تارة ، وما يوافق به المثبتة للصفات -بل للصفات الخبرية- أخرى فالاعتبار من كلامه وكلام غيره بما يوافق الدليل ، وهو الموافق لما جاء به الرسول .
. وكذلك فحول الفلاسفة والمقصود هنا أن نبين أن فحول النظار بينوا فساد طرق من نفى الصفات ، أو العلو بناء على نفي التجسيم ، -كابن سينا وأبي البركات، ، وغيرهم- بينوا فساد طرق أهل الكلام -من وابن رشد الجهمية والمعتزلة والأشعرية- التي نفوا بها التجسيم ، حتى [أن] في "تهافت التهافت" بين فساد ما اعتمد عليه هؤلاء ، كما بين ابن رشد في "التهافت" فساد ما اعتمد عليه الفلاسفة . [ ص: 283 ] أبو حامد
ولهذا كان في عامة طوائف النظار من يوافق ، بل وعلى قيام الأمور الاختيارية في ذاته وعلى العلو ، كما يوجد فيهم من يوافقهم على أن الله خالق أفعال العباد ، فأحذق متأخري أهل الإثبات على إثبات الصفات المعتزلة هو أبو الحسين البصري ، ومن عرف حقيقة كلامه علم أنه يوافق على إثبات كونه حيا عالما قادرا ، وعلى أن كونه حيا ليس هو كونه عالما ، وكونه عالما ليس كونه قادرا، لكنه ينازع مثبتة الأحوال الذين يقولون : ليست موجودة ولا معدومة .
وهذا الذي اختاره هو قول أكثر مثبتة الصفات ، فنزاعه معهم نزاع لفظي ، كما أنه يوافق على أن الله يخلق الداعي في العبد ، وعند وجود الداعي والقدرة يجب وجود المقدور .
وهذا قول أئمة أهل الإثبات وحذاقهم الذين يقولون : إن الله خالق أفعال العباد . وهو أيضا يقول : إنه سبحانه مع علمه بما سيكون، فإنه إذا كان يعلمه كائنا فعالميته متجددة .
يوافق على ذلك ، وكذلك وابن عقيل الرازي وغيره ، وهذا موافق لقول من يقول بقيام الحوادث به .
وبعض حذاق المعتزلة نصر القول بعلو الله ومباينته لخلقه بالأدلة العقلية ، وأظنه من أصحاب أبي الحسين . [ ص: 284 ]
وقد حكى ذلك عن أئمة الفلاسفة . ابن رشد وأبو البركات وغيره من الفلاسفة يختارون قيام الحوادث به كإرادات وعلوم متعاقبة ، وقد ذكروا ذلك وما هو أبلغ منه عن متقدمي الفلاسفة ، كما ذكرت أقوالهم في غير هذا الموضع ، [وتقدم بعضها] .
والمقصود هنا أن جميع ما احتج به النفاة قدح فيه بعض النفاة قدحا يبين بطلانه ، كما بين غير واحد فساد طرق الفلاسفة .