وأيضا فإذا كان المعلول لا يكون إلا مع علته التامة، لزم أن لا يحدث شيء من الحوادث إلا مع تمام علته ، ولم يحدث حين حدوثه ما يوجب حدوث علة تامة له ، وإن قدر حدوث ذلك لزم حدوث تمام علل ومعلولات في آن واحد ، وهو تسلسل في العلل ، وذلك معلوم الفساد بصريح العقل واتفاق العقلاء، بخلاف تسلسل الحوادث المتعاقبة ، وهو أنه لا يكون حادث إلا بعد حادث، فهذا فيه نزاع مشهور .
[ ص: 293 ]
والناس فيه على أربعة أقوال: قيل : يمتنع في الماضي والمستقبل، كقول
nindex.php?page=showalam&ids=15658جهم وأبي الهذيل . ولهذا قال
nindex.php?page=showalam&ids=15658الجهم بفناء الجنة والنار ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14809أبو الهذيل بفناء حركاتهما .
وقيل : يمتنع في الماضي دون المستقبل ، وهو قول كثير من طوائف أهل الكلام ، كأكثر
المعتزلة والأشعرية والكرامية وغيرهم .
وقيل : يجوز فيهما فيما هو مفتقر إلى غيره كالفلك ، سواء قيل : إنه محتاج إلى مبدع ، كقول
nindex.php?page=showalam&ids=13251ابن سينا وأتباعه ، أو قيل : إنه محتاج إلى ما يتشبه به، كقول
أرسطو وأتباعه .
وقيل : يجوز فيهما ، لكن لا يجوز ذلك فيما سوى الرب ، فإنه مخلوق مفعول ، وحوادثه القائمة به لا تحصل إلا من غيره ، فهو محتاج في نفسه وحوادثه إلى غيره ، والمحتاج لا يكون إلا مربوبا ، والمربوب لا يكون إلا مخلوقا محدثا ، والمحدث لا يقوم به حوادث لا أول لها ، فإن ما لم يسبق الحادث المعين والحوادث المحدودة فهو محدث مثلها باتفاق العقلاء ، إذ لو كان لم يسبقها فإما أن يكون معها أو بعدها ، وعلى التقديرين فهو حادث ، بخلاف الرب القديم الأزلي الواجب بنفسه ، فإنه إذا كان لم يزل متكلما إذا شاء فعالا لما يشاء ، كان ذلك من كماله ، وكان هذا كما قاله أئمة السنة والحديث .
[ ص: 294 ]
والثاني : قول من يقول : إنه فاعل مختار ، لكنه يفعل بوصف الجواز ، فيرجح أحد المتماثلين على الآخر بلا مرجح ، إما بمجرد كونه قادرا ، أو لمجرد كونه قادرا عالما ، أو لمجرد إرادته القديمة التي ترجج مثلا على مثل بلا مرجح ، ويقولون : إن الحوادث تحدث بعد أن لم تكن حادثة من غير سبب يوجب الحدوث ، فيقولون : بتراخي الأثر عن المؤثر التام .
وهذا وإن كان خيرا من الذي قبله -ولهذا ذهب إليه طوائف من أهل الكلام- ففساده أيضا بين ، فإنه إذا قيل : إن المؤثر التام حصل مع تراخي الأثر عنه ، وعند حصول الأثر لم يحصل ما يوجب الحصول ، كان حاله بعد حصول الأثر وقبله [حالا] واحدة متشابهة ، ثم اختص أحد الحالين بالأثر من غير ترجيح [مرجح ، وحدوث] الحادث بلا سبب حادث ، وهذا معلوم الفساد بصريح العقل .
والقول الثالث : قول أئمة [السنة :
nindex.php?page=treesubj&link=34092إنه ما شاء الله] كان وما لم يشأ لم يكن ، فما شاء الله وجب بمشيئته وقدرته ، وما لم يشأه امتنع
[ ص: 295 ] لعدم [مشيئته له ، فهو] موجب بمشيئته وقدرته ، لا بذات خالية عن الصفات ، وهو موجب له إذا شاءه ، لا موجب [له في الأزل ، كما] قال
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=82إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون [سورة يس 82] : وهذا الإيجاب مستلزم لمشيئته وقدرته ، لا مناف لذلك ، بل هو سبحانه يخلق ما يشاء ويختار ، فهو فاعل لما يشاؤه إذا شاء ، وهو موجب له بمشيئته وقدرته .
والله تعالى أعلم وصلى الله على سيدنا
محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
وَأَيْضًا فَإِذَا كَانَ الْمَعْلُولُ لَا يَكُونُ إِلَّا مَعَ عِلَّتِهِ التَّامَّةِ، لَزِمَ أَنْ لَا يَحْدُثَ شَيْءٌ مِنَ الْحَوَادِثِ إِلَّا مَعَ تَمَامِ عِلَّتِهِ ، وَلَمْ يَحْدُثْ حِينَ حُدُوثِهِ مَا يُوجِبُ حُدُوثَ عِلَّةٍ تَامَّةٍ لَهُ ، وَإِنْ قُدِّرَ حُدُوثُ ذَلِكَ لَزِمَ حُدُوثُ تَمَامِ عِلَلٍ وَمَعْلُولَاتٍ فِي آنٍ وَاحِدٍ ، وَهُوَ تَسَلْسُلٌ فِي الْعِلَلِ ، وَذَلِكَ مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِصَرِيحِ الْعَقْلِ وَاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ، بِخِلَافِ تَسَلْسُلِ الْحَوَادِثِ الْمُتَعَاقِبَةِ ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ حَادِثٌ إِلَّا بَعْدَ حَادِثٍ، فَهَذَا فِيهِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ .
[ ص: 293 ]
وَالنَّاسُ فِيهِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ: قِيلَ : يَمْتَنِعُ فِي الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ، كَقَوْلِ
nindex.php?page=showalam&ids=15658جَهْمٍ وَأَبِي الْهُذَيْلِ . وَلِهَذَا قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=15658الْجَهْمُ بِفَنَاءِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ ، وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=14809أَبُو الْهُذَيْلِ بِفَنَاءِ حَرَكَاتِهِمَا .
وَقِيلَ : يَمْتَنِعُ فِي الْمَاضِي دُونَ الْمُسْتَقْبَلِ ، وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ طَوَائِفِ أَهْلِ الْكَلَامِ ، كَأَكْثَرِ
الْمُعْتَزِلَةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ وَالْكَرَّامِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ .
وَقِيلَ : يَجُوزُ فِيهِمَا فِيمَا هُوَ مُفْتَقِرٌ إِلَى غَيْرِهِ كَالْفُلْكِ ، سَوَاءٌ قِيلَ : إِنَّهُ مُحْتَاجٌ إِلَى مُبْدِعٍ ، كَقَوْلِ
nindex.php?page=showalam&ids=13251ابْنِ سِينَا وَأَتْبَاعِهِ ، أَوْ قِيلَ : إِنَّهُ مُحْتَاجٌ إِلَى مَا يَتَشَبَّهُ بِهِ، كَقَوْلِ
أَرِسْطُو وَأَتْبَاعِهِ .
وَقِيلَ : يَجُوزُ فِيهِمَا ، لَكِنْ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِيمَا سِوَى الرَّبِّ ، فَإِنَّهُ مَخْلُوقٌ مَفْعُولٌ ، وَحَوَادِثُهُ الْقَائِمَةُ بِهِ لَا تَحْصُلُ إِلَّا مِنْ غَيْرِهِ ، فَهُوَ مُحْتَاجٌ فِي نَفْسِهِ وَحَوَادِثِهِ إِلَى غَيْرِهِ ، وَالْمُحْتَاجُ لَا يَكُونُ إِلَّا مَرْبُوبًا ، وَالْمَرْبُوبُ لَا يَكُونُ إِلَّا مَخْلُوقًا مُحْدَثًا ، وَالْمُحْدَثُ لَا يَقُومُ بِهِ حَوَادِثُ لَا أَوَّلَ لَهَا ، فَإِنَّ مَا لَمْ يَسْبِقِ الْحَادِثَ الْمُعَيَّنَ وَالْحَوَادِثَ الْمَحْدُودَةَ فَهُوَ مُحْدَثٌ مِثْلُهَا بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ ، إِذْ لَوْ كَانَ لَمْ يَسْبِقْهَا فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهَا أَوْ بَعْدَهَا ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَهُوَ حَادِثٌ ، بِخِلَافِ الرَّبِّ الْقَدِيمِ الْأَزَلِيِّ الْوَاجِبِ بِنَفْسِهِ ، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إِذَا شَاءَ فَعَّالًا لِمَا يَشَاءُ ، كَانَ ذَلِكَ مِنْ كَمَالِهِ ، وَكَانَ هَذَا كَمَا قَالَهُ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ .
[ ص: 294 ]
وَالثَّانِي : قَوْلُ مَنْ يَقُولُ : إِنَّهُ فَاعِلٌ مُخْتَارٌ ، لَكِنَّهُ يَفْعَلُ بِوَصْفِ الْجَوَازِ ، فَيُرَجِّحُ أَحَدَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ عَلَى الْآخَرِ بِلَا مُرَجِّحٍ ، إِمَّا بِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ قَادِرًا ، أَوْ لِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ قَادِرًا عَالِمًا ، أَوْ لِمُجَرَّدِ إِرَادَتِهِ الْقَدِيمَةِ الَّتِي تُرَجِّجُ مِثْلًا عَلَى مِثْلٍ بِلَا مُرَجِّحٍ ، وَيَقُولُونَ : إِنَّ الْحَوَادِثَ تَحْدُثُ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ حَادِثَةً مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ يُوجِبُ الْحُدُوثَ ، فَيَقُولُونَ : بِتَرَاخِي الْأَثَرِ عَنِ الْمُؤَثِّرِ التَّامِّ .
وَهَذَا وَإِنْ كَانَ خَيْرًا مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ -وَلِهَذَا ذَهَبَ إِلَيْهِ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ- فَفَسَادُهُ أَيْضًا بَيِّنٌ ، فَإِنَّهُ إِذَا قِيلَ : إِنَّ الْمُؤَثِّرَ التَّامَّ حَصَلَ مَعَ تَرَاخِي الْأَثَرِ عَنْهُ ، وَعِنْدَ حُصُولِ الْأَثَرِ لَمْ يَحْصُلْ مَا يُوجِبُ الْحُصُولَ ، كَانَ حَالُهُ بَعْدَ حُصُولِ الْأَثَرِ وَقَبْلَهُ [حَالًا] وَاحِدَةً مُتَشَابِهَةً ، ثُمَّ اخْتَصَّ أَحَدُ الْحَالَيْنِ بِالْأَثَرِ مِنْ غَيْرِ تَرْجِيحِ [مُرَجِّحٍ ، وَحُدُوثِ] الْحَادِثِ بِلَا سَبَبٍ حَادِثٍ ، وَهَذَا مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِصَرِيحِ الْعَقْلِ .
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : قَوْلُ أَئِمَّةِ [السُّنَّةِ :
nindex.php?page=treesubj&link=34092إِنَّهُ مَا شَاءَ اللَّهُ] كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ ، فَمَا شَاءَ اللَّهُ وَجَبَ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ ، وَمَا لَمْ يَشَأْهُ امْتَنَعَ
[ ص: 295 ] لِعَدَمِ [مَشِيئَتِهِ لَهُ ، فَهُوَ] مُوجَبٌ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ ، لَا بِذَاتٍ خَالِيَةٍ عَنِ الصِّفَاتِ ، وَهُوَ مُوجِبٌ لَهُ إِذَا شَاءَهُ ، لَا مُوجِبٌ [لَهُ فِي الْأَزَلِ ، كَمَا] قَالَ
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=82إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [سُورَةُ يس 82] : وَهَذَا الْإِيجَابُ مُسْتَلْزِمٌ لِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ ، لَا مُنَافٍ لِذَلِكَ ، بَلْ هُوَ سُبْحَانَهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ ، فَهُوَ فَاعِلٌ لِمَا يَشَاؤُهُ إِذَا شَاءَ ، وَهُوَ مُوجِبٌ لَهُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ .
وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا
مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ .