وكذا تنازع الناس في فقالت طائفة من أصحاب استصحاب حال البراءة الأصلية، يصلح للدفع لا للإبقاء، أي يصح أن يدفع به من ادعى تغيير الحال، لإبقاء الأمر على ما كان، فإذا لم نجد دليلا ناقلا أمسكنا، لا نثبت الحكم ولا ننفيه، بل ندفع من يثبته . فيكون حال المتمسك بالاستصحاب حال المعترض مع المستدل [ ص: 283 ] يمنعه الدلالة حتى يثبتها، لا [أنه] يقيم دليلا مناقضا له. أبي حنيفة:
وذهب الأكثرون من أصحاب الشافعي ومالك وغيرهم إلى أنه يصلح لإبقاء الأمر على ما كان عليه، فإنه إذا غلب على الظن انتفاء الناقل غلب على الظن بقاء الأمر على ما كان عليه. وهنا لنفي الحكم ثلاث مسالك: وأحمد
أحدها: التمسك بالاستصحاب المحض، مثل أن يقال في مسألة وجوب الوتر أو الأضحية أو غير ذلك: الأصل عدم الوجوب، والذمة كانت بريئة من الإيجاب، وليس في الشرع ما يزيل ذلك، فالأصل بقاء الذمة بريئة من الوجوب.
وهذا مستقيم فيما لا يجب ولا يحرم إلا بالشرع، كوجوب الوتر والأضحية وسجود التلاوة، وكذلك تحريم ما لا يحرم إلا بالشرع، كالضب واليربوع وسنور البر، ونحو ذلك مما اختلف في تحريمه، وكالعقود المتنازع في تحريمها، كالمساقاة والمزارعة وغير ذلك.
المسلك الثاني: أن نبين من أدلة الشرع العامة ما ينفي الوجوب والحرمة فيما لم يوجبه الشارع ولم يحرمه، كقوله تعالى: [ ص: 284 ]
وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه ، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -:
. وقوله لما قال: "ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" . "إن الله كتب عليكم الحج"، قالوا: أفي كل عام؟ قال: "لا، ولو قلت نعم لوجبت"
والمسلك الثالث أن يقال: الحكم الشرعي لا يثبت إلا بدليله، والدليل منتف، فلا يثبت. وهذا يسمى حصر المدارك ونفيها، وهذا مضمونه أن ثبوت الحكم في حقنا بدون دليل منتف، والدليل منتف، فينتفي الحكم، وإذا انتفى أحد النقيضين ثبت الآخر. والدليل وإن كان لا ينعكس، بل قد يثبت الشيء بدون دليله، فهذا مما ليس علينا معرفته. وأما الأحكام التي هي الأمر والنهي، التي علينا أن نعرفها، فلا تثبت بدون دليلها.