الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فهذا مفهوم المخالفة الذي يسمى دليل الخطاب، يدل على بطلان قول من أعطاها الثلث في العمريتين، ولا وجه لإعطائها السدس مع مخالفته للإجماع، لأن الله تعالى إنما أعطاها ذلك [ ص: 313 ] مع الولد والإخوة، وقيده بذلك، ودل ذلك على أنها لا تعطاه مع الأخ الواحد، فعلم أن الثلث قد تستحقه مع الأخ الواحد، ويدل على ذلك أنها إذا أعطيته مع الأب، فمع غيره من العصبات أولى وأحرى.

وهذه دلائل بتنبيه الخطاب ومفهومه، إما مفهوم الموافقة أو مفهوم المخالفة، فلما دل القرآن على أنها لا تعطى الثلث ولا تعطى السدس، وكان قسمة ما يبقى بعد فرض الزوجة أثلاثا، مثل قسمة أصل المال من الأبوين أثلاثا ليس بينهما فرق أصلا- علم بدلالة التقسيم أن الله أراد أن تعطى في هذه الحال هذا، وكانت هذه الدلالة خطابية من جهة دلالة القرآن على إبطال ما سواه، فتعينت بالضرورة، ومن جهة أنها قياس في معنى الأصل، وإذا جعل ما في معنى الأصل دلالة لفظية كانت خطابية أيضا، كما في قوله: "من أعتق شركا له في عبد"، وقوله: "أيما رجل وجد متاعه بعينه عند رجل قد أفلس فهو أحق به"، فإن لفظ [ ص: 314 ] "عبد" و"رجل" يتناول في هذا الذكر والأنثى في عرف الخطاب، من باب التعبير باللفظ الخاص عن المعنى العام.

وهذا باب غير باب القياس، وذلك تارة لكون اللفظ الخاص صار في العرف العام عاما، كقوله تعالى: إن الله لا يظلم مثقال ذرة ، وقوله: ما يملكون من قطمير ، وقوله: ولا يظلمون نقيرا ، وقول القائل: "والله ما أخذت له حبه، ولا شربت له قطرة، ولا أكلت له لقمة"، ونحو ذلك مما صار في عرف الخطاب يدل على العام، لا يقصد به النفي الخاص.

وتارة يعبر باللفظ الخاص عن المعنى العام، لكونه صار [في] العرف الخاص عاما، ومن هذا الباب خطاب [المطاع] الواحد في أهل طاعته الذين قد استقر عندهم تماثلهم في الحكم، فإن هذا خطاب لجمعهم، كخطاب السيد الواحد من عبيده بأمور يشترك فيها العبيد، وكذلك الملك الواحد من رعيته. ومن هذا [ ص: 315 ] خطاب النبي - صلى الله عليه وسلم - للواحد من أمته، فإن عرف بعادته من خطابه أن هذا حكم لمن هو مثل ذلك الشخص إلى يوم القيامة، وكذلك خطابه لمن حضره، قد علم بعادته أن من غاب عنه إذا كان بمنزلتهم فإنهم يخاطبون بمثل ذلك، لمعرفة المستمع أن حكم الشيء حكم مثله، وأن التعيين هنا لا يراد به التخصيص، بل التمثيل.

وأما إذا كان أحد الزوجين مع سائر العصبة، فهنا لو أعطيت ثلث الباقي لكان جعلا لذلك العاصب معها بمنزلة الأب، وليس الأمر كذلك، فإن الأب في طبقتها، وكان حكمها معه كحكم الذكر مع طبقته من الإناث، وأما غير الأب فبعيد عنها.

والقرآن لما أعطاها الثلث مع الأب دل على أنه مع غيره من العصبة أولى، وليس إذا أعطيت ثلث الباقي مع الأب يكون غيره من العصبة مثله، ولا أولى من نقصانها، والسدس لا سبيل له لما تقدم.

وقد دل القرآن أنها مع الواحد من الإخوة لا تعطى السدس، فلما بطل إعطاؤها السدس مع العصبة غير الأب وأحد الزوجين، [ ص: 316 ] وثلث الباقي، تعين الثلث، وكان أعطيت الثلث مع سائر العصبة وأحد الزوجين بمنزلة أن تعطاه مع الأب وحده، فإن الأب وحده يحجب سائر العصبة ويأخذ الثلثين.

ومع أحد الزوجين أعطيناها ثلث الباقي ليأخذ الأب الثلثين الآخرين، إذ ليس هناك عصبة غيره، إذ هو يحجبهم، ومع غيره لو أعطيناها ثلث الباقي لكان ذلك ليأخذ ذلك العصبة الثلثين، وليس ذلك له، بل قد يكون مع الأم محجوبا لا يأخذ شيئا بحال، إذا كان معها أب أو ابن، إذا كان قد يكون محجوبا حجب حرمان، فحجب النقصان أولى . بخلاف الأب، فإنه لا يحجب معها لا حجب حرمان ولا حجب نقصان، فكان إعطاؤها مع الأب الثلث إعطاء مع غير الأب في سائر الأحوال بطريق الأولى، إذ لا حال هناك يستحق أحد معها أن يأخذ مثلي ما تأخذ، كما يستحق الأب ذلك. فإن قوله: وورثه أبواه فلأمه الثلث دل على أن لها الثلث، والباقي للأب بقوله: وورثه أبواه ، فإنه لما جعل الميراث ميراثا بينهما، ثم أخرج نصيبها، دل على أن الباقي نصيبه. وإذا أعطي [ ص: 317 ] [الأب] الباقي معها لم يلزم أن يعطى غيره مثل ما أعطي.

وإنما أعطينا سائر العصبة بقوله: وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ، وبقوله: ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون ، وبقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ألحقوا الفرائض بأهلها، فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر". .

التالي السابق


الخدمات العلمية