الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وكذلك لو كان الزوج لكان له الربع، فلو فرض للأخت النصف مع البنت لعالت، فنقصت البنت عن النصف، والإخوة لا يزاحمون الأولاد لا بفرض ولا تعصيب فإن الأولاد أولى منهم.

والله تعالى إنما أعطاها النصف، إذا كان الميت كلالة لا ولد له [ ص: 324 ] ولا والد، فمن له ولد لا يفرض لها معه النصف.

فلما بطل سقوطها وفرضها لم يبق إلا أن تكون عصبة أولى من عصبة البعيد، كالعم وابن العم. [وهذا قول الجمهور]، وقد دل عليه حديث البخاري عن ابن مسعود [لما ذكر له] أن أبا موسى وسلمان بن ربيعة قالا في بنت وبنت ابن وأخت: للبنت النصف، وللأخت النصف، وائت ابن مسعود فسيتابعني [فقال] : لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين، لأقضين فيها بقضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: للبنت النصف، ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين، وما بقي للأخت. [ ص: 325 ]

فأخبر ابن مسعود رضي الله عنه أن هذا قضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فدل ذلك على أن الأخوات مع البنات عصبة، والأخت تكون عصبة بغيرها، وهو أخوها. فلا يمتنع أن تكون عصبة مع البنت. فإن البنت أقوى من أخ الميت، ولهذا لم يعصبها، بخلاف البنت مع الابن، فإنها ليست أقوى من أخيها، فلهذا عصبها. وفي السنن : أن معاذا أفتى في بنت وأخت، فأعطى الأخت النصف، والبنت النصف.

وأما قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر"، فهذا عام خص منه المعتقة والملاعنة والملتقطة لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "تحوز المرأة ثلاث مواريث: عتيقها، ولقيطها، وولدها الذي لاعنت عليه" . وإذا كان عاما مخصوصا خصت منه هذه الصورة بما ذكر من الدلالة. [ ص: 326 ]

وإن قيل: قوله: "فلأولى رجل ذكر" إنما هو في الأقارب الوارثين بالنسب. قيل: فالمنازع يقدم المعتق على الأخت مع البنت، وليس من الأقارب، وهو - صلى الله عليه وسلم - قال: "فلأولى رجل ذكر"، ووكد بالذكر ليبين أن العاصب المذكور هو الذكر دون الأنثى، وأنه لم يرد بلفظة الرجل ما يتناول الأنثى، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أيما رجل وجد متاعه" ونحو ذلك مما يذكر فيه لفظ الرجل، والحكم يعم النوعين: الذكور والإناث. وهذا كقوله - صلى الله عليه وسلم - في فرائض صدقة الإبل: "فإن لم يكن فيها بنت مخاض فابن لبون ذكر"، فذكر لفظ "الذكر" ليبين أن مراده بابن اللبون: الذكر دون الأنثى، وأن الذكر يجزئ في هذه الحال دون ما إذا كان فيها بنت مخاض، فإن الفرض بنت مخاض.

ومما يبين صحة قول الجمهور أن قوله: ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك إنما يدل منطوقه على أنها ترث النصف مع عدم الولد، والمفهوم إنما يقتضي أن الحكم في المسكوت ليس مماثلا [ ص: 327 ] للحكم في المنطوق، فإذا كان فيه تفصيل حصل بذلك مقصود المخالفة. فلا يجب أن تكون كل صورة من صور المسكوت عنه مخالفة لكل صورة من صور المنطوق، ومن توهم ذلك في دلالة المفهوم فإنه في غاية الجهل.

فإن المفهوم إنما يدل بطريق التعليل أو بطريق التخصيص.

والحكم إذا ثبت بعلة وانتفت جاز أن يخلفها- في بعض الصور أو كلها- علة أخرى. وقصد التخصيص يحصل بالتفصيل، وحينئذ فإذا نفي إرثها مع ذكور الولد حصل المقصود بدليل الخطاب، ولم يكن في الآية نفي ميراثها مع الأنثى، فيجب أن تكون من أهل الفرائض، أو من العصبة، وهي مع كونها من أهل الفرائض، فقد تكون عصبة، وحينئذ فلا تخرج من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ألحقوا الفرائض بأهلها"، بل هي من أهل الفرائض، لكن لها التعصيب في بعض الأحوال، كما تكون عصبة مع إخوتها.

وعلى هذا التقدير فلا يكون الحديث مخصوصا، بل عمومه محفوظ، وصار هذا كما لو كان معها إخوتها أو كان مع البنين والبنات أو الإخوة والأخوات أحد الزوجين أو الأم، فإما أن تلحق الفرائض بأهلها، وما بقي لا يختص به ذكور الولد [ ص: 328 ] والإخوة بالنص والإجماع فإن الله تعالى يقول، وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين [بعد قوله: فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك . وقال تعالى: يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد] وورثه أبواه فلأمه الثلث .

فقد جعل لكل من الأبوين السدس مع الولد، والباقي للولد.

وإن كانوا ذكورا وإناثا فللذكر مثل حظ الأنثيين، وهذا متفق عليه بين المسلمين، فدل ذلك على أن قوله: "فلأولى رجل ذكر" إنما يراد به إذا لم يكن هناك من يكون عصبة بغيره، وهو من أهل الفرائض في بعض الأحوال.

ولو أخذ بما يظن أنه ظاهر الحديث، لكان الباقي بعد الفرض لذكور الإخوة دون الأخوات، والبنين دون البنات، وهذا باطل بالنص وإجماع المسلمين. فعلم أنها إذا كانت عصبة بغيرها لم يكن الباقي لأولى رجل ذكر، وهي في هذه الحال عصبة [ ص: 329 ] بغيرها، فليس الباقي لأولى رجل ذكر. ومعلوم أن أخاها أقرب من العم وابن العم، فإذا كان لا يسقطها، بل تكون عصبة معه، فلأن لا يسقطها العم وابنه بطريق الأولى والأحرى، وإذا لم يسقطها ورثت دونه، لأنه أبعد منها بخلاف أختها.

وحينئذ قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ألحقوا الفرائض بأهلها" إن أريد به من له فرض في تلك المسألة، فقوله: "فما بقي فلأولى رجل ذكر" خص منه من الأقارب من يكون عصبة بغيرها، والبنت في هذه الصورة عصبة بغيرها، فتخص منه.

ولو أريد بالفرائض من هو من أهل الفرائض في الجملة، سواء كان لا يرث إلا بفرض، كالزوجين والأم وولد الأم أو كان يرث بفرض تارة وبتعصيب أخرى، كالأب والبنات والأخوات، فيراد بتقديم هذا الضرب، وما بقي بعد فلأولى رجل ذكر، فقد تناولها الحديث.

فإن الورثة أقسام:

ذوو فرض محض: كالزوجين، وولد الأم، والأم.

وذوو تعصيب محض: كالبنين، والإخوة.

ومن يكون ذا فرض بنفسه، وتعصيب بنفسه: كالأب والجد.

ومن يكون ذا فرض وعصبة بغيره: كالبنات والأخوات. [ ص: 330 ]

[ومعلوم أن قوله: "ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر" لم يرد به سقوط البنات والأخوات] إذا كن عصبة بغيرهن، بل يرثن في هذه الحال بالإجماع.

التالي السابق


الخدمات العلمية