الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ومن قال: إن طير الهواء وحيتان البحر ووحوش الفلا والكفار الذين بأرض الهند والأجنة في بطون الأرحام تجري منافعهم ومصالحهم على يد رجل من البشر، فقد قال نظير ما يقوله النصارى في المسيح، وكان قوله من أعظم الكذب القبيح . [ ص: 94 ]

وإن قال: إن أهل الأرض إذا احتاجوا إلى شيء دعا الله فيعطيه بدعائه، كان هذا من نمط الذي قبله، فإنه قد علم أن الله يجيب دعوة المضطر إذا دعاه وإن كان كافرا، فإذا كان المشركون يدعون الله بلا واسطة فيجيب دعاءهم، فالمسلمون الذين هم عباده أولى. وقد يدعو الله بدعاء لم يعلم به أحد من البشر.

فإن قيل: ذلك الغوث يطلع على أسرار قلوب العباد. كان هذا القول أظهر في الكفر والفساد، فسيد ولد آدم يظهره على شيء ويجيب عليه أشياء. وقد قال له: وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم .

وقال: قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب . وقد رميت أم المؤمنين بالإفك وأخفي عنه أمرها مدة، لما كان في ذلك له من المحنة، تعظيما لأجره ورفعا لدرجته.

وكذلك لما جاء قوم زكوا بني أبيرق الذين كانوا قد سرقوا طعام جارهم ودرعه، ظن صدق المزكين ودفع عن المتهمين، حتى أنزل الله تعالى: إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله الآيات. [ ص: 95 ]

وفي الصحيح عنه أنه قال: "إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضي بنحو مما أسمع ". وفي لفظ: "فأحسبه صادقا. فمن قضيت له من حق أخيه فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار".

ولما رآهم يلقحون النخل [قال] : "ما أظنه يغني شيئا"، فتركوه، فصار شيصا، فقال: "إنما أخبرتكم عن ظني، فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله فلا أكذب على الله" . وقال: "أنتم أعلم بأمر دنياكم، فما كان من أمر دينكم فإلي " . ومثل هذا كثير، فإذا كان هذا أفضل الخلق وأعلمهم فكيف يجوز أن يقال في غيره إنه يعلم جميع أسرار من يحتاج إلى الله؟

ثم قد علم بالقرآن والتواتر والتجارب أن الخلق ما زالوا يحتاجون إلى الله، ويضطرون إلى دعائه، إما في إعطائهم ما ينفعهم، كإنزال المطر، وإثبات النبات، وغفران الذنوب، والإعانة على الطاعات، وإما في دفع ما يكرهون، مثل دفع الأعداء وتفريج [ ص: 96 ] الكربات، وهو يجيب دعاءهم ويعطيهم سؤلهم تحقيقا لقوله: وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون من غير أن يرفعوا أمرهم إلى واسطة بينهم وبين الله.

وأيضا فما زال الناس يجدبون ويستولي عليهم العدو، وهذا الغوث لا ينفع ولا يدفع، فيا ليت شعري ماذا هي الحوائج التي يقضيها؟ أهي التي سألوا الله فيها؟ فالله مجيب المضطر إذا دعاه، وهو قريب يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، أم التي لم تقض بعد لأحد فيها؟ أم النعم التي ابتدأهم الله بها من غير سؤالهم؟ فهو سبحانه يرزق الكفار ويمنعهم، بل وينصرهم إذا شاء، كما نصرهم يوم أحد، وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين .

فإن كان هذا الغوث ساعيا في ذلك كان عاصيا لله ورسوله، محاربا لله ورسوله، فإن من حارب الله ورسوله وعباده المؤمنين كان من أعداء الله لا من أولياء الله. وما يرويه أهل الكذب والضلال من أن أهل الصفة قاتلوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لما انهزم أصحابه يوم حنين أو غير يوم حنين، وأنهم قالوا: نحن مع الله، من كان مع الله كنا معه، من أعظم الكذب الموضوع وأعظم الكفر بالله [ ص: 97 ] ورسوله، وهذا يقوله من ينظر إلى مجرد ما يقدره الله ويقضيه، ويشهد الحقيقة الكونية، معرضا عما يحبه الله ويرضاه، وما أمر به ونهى عنه، وبعث به رسله وأنزل به كتبه. ومن طرد هذا القول كان أكفر من اليهود والنصارى، فإن أولئك آمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض، وصاحب هذا المشهد لا يؤمن بشيء من الكتاب، وغايته في شهوده تحقيق توحيد المشركين كأبي لهب وأبي جهل وأمثالهما من الكفار، فإن أولئك كانوا يقرون بأن الله رب كل شيء وخالقه، كما أخبر الله عنهم بقوله: ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله . فمن جعل غاية تحقيقه في توحيده أن يشهد ذاك، كان منتهاه هذا الإشراك.

التالي السابق


الخدمات العلمية