الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فنفي الحكم الشرعي تارة يكون بالاستصحاب، وتارة بدليل شرعي يدل على نفسه، وتارة بانتفاء دليله وسببه اللازم له، فإنه إذا انتفى اللازم انتفى ملزومه.

والمقصود هنا أن نفاة القياس لما سدوا باب التعليل ونفوا التمثيل، وقصروا في معرفة النصوص وفهمها، ظهر من خطئهم في الأحكام ما شنع به عليهم الناس، وإلا فلو أعطوا النصوص حقها من المعرفة والفهم لدلت على جميع الأحكام، واستغنوا بذلك عن القياس، وإن كان القياس أيضا دليلا صحيحا يوافق دلالة الظاهر. [ ص: 288 ]

والتعليل صحيح، وهم مخطئون في نفي التمثيل والتعليل.

كما أن مثبتة القياس لو لم يقيسوا إلا قياسا صحيحا لما خالفوا نصا قط، لكن حيث خالفوا النصوص بالقياس فلابد أن يكون القياس فاسدا، ولكن قد يخفى فساده، كما قد تخفى صحته إذا دق. فكما تخفى دلالة النص تارة وتظهر أخرى، وخفاء الدلالة وظهورها أمر نسبي، فقد يخفى على هذا ما يظهر لهذا. وإلا فالذين خالفوا أحاديث القرعة والقيافة، وحديث ذي اليدين، وحديث أكل الناسي في رمضان، وحديث الصيد الذي يوجد ميتا بعد المغيب ولا أثر فيه إلا للسهم، وحديث إيجاب التسمية على الذبيحة والصيد، وحديث الشاهد [ ص: 289 ] واليمين، وأحاديث الجمع بين الصلاتين، وحديث قطع الصلاة بالكلب الأسود والمرأة والحمار، وحديث جعل الطلاق الثلاث واحدا، وحديث يعذب الميت ببكاء أهله عليه، وأمثال ذلك من الأحاديث الصحيحة، التي ليس مع مخالفيها إلا ما يظن أنه ظاهر، أو ظاهر نص آخر، أو مقتضى قياس، متى تدبرت المعارض لذلك لم تجده -ولله الحمد - معارضا صحيحا، بل تجد ما عارض به الظاهر إما حديث ضعيف، وإما [ ص: 290 ] حديث ظاهر لا دلالة فيه، وإما قياس فاسد، وإما دعوى إجماع قد علم انتفاؤه ووجود النزاع في تلك المسألة.

وكذلك نفاة القياس مع قصورهم في فهم النصوص تجدهم قد اضطروا إلى مقالات في غاية الفساد، كأقوال في الفرائض، فإن المسائل التي تنازع فيها الصحابة- كالعمريتين والحمارية التي تسمى المشتركة، وأمثال ذلك- لما لم يدخلوا في المعاني، ولا فهموا دلالة النصوص على ذلك، صاروا يعملون بما يظنونه استصحابا للإجماع، فيقولون في مسألة الحمارية -وهي زوج وأم وابنان من ولد الأم وبعض ولد الأبوين- يقولون: قد اتفقوا على توريث ولد الأم، وتنازعوا في توريث ولد الأبوين، ولم يقم دليل على توريثهم، فينتفي توريثهم لانتفاء دليله.

وهذا خطأ، فإن الإجماع إنما انعقد على أنهم يرثون بعض [ ص: 291 ] الثلث الباقي، وتنازعوا في بعضه الآخر، هل هو لهؤلاء أو هؤلاء، فإذا جعلناه لأحدهما لم يكن ذلك مجمعا عليه، فإن كان معنا دليل غير الإجماع، وإلا فهذا قول بلا دليل أصلا.

وهذا بخلاف تنازعهم في دية الذمي، إذا قال قائل: هي دون الثلث، لأن الإجماع انعقد على وجوب ذلك، والذمة بريئة مما زاد عليه، ولا بينة إلا بدليل، فإن هذا نفى الزيادة باستصحاب براءة الذمة. والتمسك بالاستصحاب في مثل هذا وإن كان أضعف من غيره -لأنه قد وجد جناية توجب شغل الذمة قطعا، فعلمنا أن الذمة مشتغلة قطعا، وقد وجب لهذا على هذا حق، لكن لم يعلم مقداره- فليس هذا كالميراث المتنازع فيه، لأنه لأحد المتنازعين قطعا، ولم يجمعوا على وجوبه لأحدهما، ولا يورث أحدهما دون الآخر الجميع.

التالي السابق


الخدمات العلمية