الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
والتحقيق في هذا الباب أن العلة تقال على العلة التامة، [ ص: 186 ] وهي المستلزمة لمعلولها، فهذه متى انتقضت بطلت بالاتفاق. وتقال على العلة المقتضية أولا، وتسمى المؤثرة ويسمى السبب دالا ودليل العلة ونحو ذلك. فهذه إذا انتقضت لفرق مؤثر يفرق فيه بين صورة النقض وغيرها من الصور لم تفسد. ثم إذا كانت صورة الفرع التي هي صورة النزاع في معنى صورة النقض ألحقت بها، وإن كانت في معنى صورة الأصل ألحقت بها.

فمن قال: إن العلة لا يجوز تخصيصها مطلقا لا لفوات شرط ولا لوجود مانع فهذا مخطئ قطعا، وقوله مخالف لإجماع السلف كلهم الأئمة الأربعة وغيرهم، فإنهم كلهم يقولون بتخصيص العلة لمعنى يوجب الفرق، وكلامهم في ذلك أكثر من أن يحصر. وهذا معنى قول من قال: تخصيصها مذهب الأئمة الأربعة.

والقول بالاستحسان المخالف للقياس لا يمكن إلا مع القول بتخصيص العلة. وما ذكروه من اعتراض النص على قياس الأصول فهو أحد أنواع تخصيص العلة، وهذا تسليم منهم لكون العلة تقبل التخصيص في الجملة. وأما من جوز تخصيص العلة بمجرد دليل لا يبين الفرق بين صورة التخصيص وغيرها فهذا مورد النزاع في [ ص: 187 ] الاستحسان المخالف للقياس وغيره.

ثم هذه العلة إن كانت مستنبطة وخصت بنص، ولم يبين الفرق المعنوي بين صورة التخصيص وغيرها فهذا أضعف ما يكون. وهذا هو الذي كان ينكره كثيرا الشافعي وأحمد وغيرهما على من يفعله من أصحاب أبي حنيفة وغيرهم. وكلام أحمد فيما تقدم أراد به هذا، فإن العلة المبينة لم تعلم صحتها إلا بالرأي، فإذا عارضها النص كان مبطلا لها. والنص إذا عارض العلة دل على فسادها، كما أنه إذا عارض الحكم الثابت بالقياس دل على فساده بالإجماع.

وأما إذا كانت العلة منصوصة، وقد جاء نص بتخصيص بعض صور العلة، فهذا مما لا ينكره أحمد، بل ولا الشافعي وغيرهما، كما إذا جاء نص في صورة ونص يخالفه في صورة أخرى، لكن بينهما شبه لم يقم دليل على أنه مناط الحكم فهؤلاء يقرون النصوص، ولا يقيسون منصوصا على منصوص يخالف حكمه، بل هذا من جنس الذين قالوا: إنما البيع مثل الربا . وهذا هو الذي قال أحمد فيه: "أنا أذهب إلى كل حديث كما جاء، ولا أقيس عليه "، أي لا أقيس عليه صورة الحديث الآخر، فأجعل الأحاديث متناقضة، وأدفع بعضها ببعض، بل أستعملها كلها./

والذين يدفعون بعض النصوص ببعض يقولون: الصورتان سواء لا فرق بينهما، فيكون أحد النصين ناسخا للآخر. ومثل هذا [ ص: 188 ] كثيرا ما يتنازع فيه فقهاء الحديث ومن ينازعهم ممن يقيس منصوصا على منصوص، ويجعل أحد النصين منسوخا لمخالفته قياس النص الآخر في طي هذا القياس.

ويبقى الأمر دائرا هل دل الشرع على التسوية بين الصورتين حتى يجعل حكمهما سواء، ويجعل الحكم الوارد في إحداهما منسوخا بالحكم المضاد له الوارد في الأخرى، كما يقوله من يجعل القرعة منسوخة بآية الميسر، وأمر المأمومين بأن يتبعوا الإمام، فإذا كبر كبروا، وإذا ركع ركعوا، وإذا صلى جالسا صلوا جلوسا أجمعين-: منسوخا بدوام قيامهم في الصلاة التي صلوا بعضها خلف إمام قائم، وباقيها خلف إمام قاعد. ويجعل حديث الأضحية والهدي أحدهما منسوخا بالآخر . ويجعلون قطع جاحد العارية منسوخا إذا سلموا أنه قطعها لذلك، منسوخا" بقوله: "ليس على [ ص: 189 ] المختلس ولا المنتهب ولا الخائن قطع " . ويجعلون العقوبة المالية منسوخة بالنهي عن إضاعة المال، ويجعلون تضعيف الغرم على من درئ عنه القطع منسوخا بقوله: وجزاء سيئة سيئة مثلها .

ويجعل تقضية ما شرطه النبي - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين المشركين في الهدنة منسوخا بقوله: "من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فهو باطل" .

التالي السابق


الخدمات العلمية