الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأيضا فإن قول الله ورسوله هو المثبت لهذه الأحكام، فإذا انتفى الموجب انتفى موجبه، فانتفت لانتفاء موجبها، وهو دليله، فإن خطاب الشارع ليس دليلا مختصا، بل هو الدليل، وهو [ ص: 285 ] المثبت لها في نفس الأمر، ولا واجب إلا ما أوجبه الله تعالى ورسوله، ولا حرام إلا ما حرمه الله ورسوله.

هذا إذا أثبتنا بموجب الخطاب، مثل أن نقول: أوجب الله ذلك فوجب، وحرمه فحرم، فهنا شيئان: إيجاب ووجوب، وتحريم وحرمة، فالإيجاب والتحريم يعود إلى خطاب الشارع وكلامه، والوجوب والحرمة فهو صفة الفعل. والفقهاء يثبتون هذين النوعين من الأحكام، وأما المعتزلة فلا تثبت إلا الثاني، والجهمية ومن وافقهم من الأشعرية وغيرهم لا يثبتون إلا الأول؛ إذ ليس عندهم للأحكام سبب ولا حكمة.

والمقصود أن كل واحد من النوعين لا يثبت إلا بالدليل الشرعي، فإذا انتفى الدليل الشرعي، لزم انتفاء هذا الحكم، لكون ثبوته مستلزما للدليل الشرعي، وثبوت الملزوم بدون اللازم محال، بخلاف المدلول الذي لا يستلزم الدليل. وهذا لأن الدليل لابد أن يستلزم مدلوله، فيلزم من ثبوت الدليل ثبوت المدلول، ولولا ذلك لم يكن دليلا عليه، إذ لو اقترن به المدلول تارة، وتخلف عنه أخرى، لم يكن- إذا تحقق الدليل- وجود المدلول معه بأولى [ ص: 286 ] من عدمه، فلهذا كان الدليل مستلزما للمدلول، إما قطعا إن كان يقينيا، وإما ظنا إن كان ظنيا، ولا ينعكس، فلا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول، كما لا يلزم من عدم الملزوم عدم اللازم، لأن الدليل هو الملزوم، إلا أن تكون الملازمة من الجانبين، بحيث يكون كل من الأمرين لازما للآخر ملزوما له، كالحكم الشرعي والدليل الشرعي، فإنه إذا ثبت الدليل الشرعي [ثبت الحكم الشرعي]، وإذا ثبت الحكم الشرعي فلابد له من دليل شرعي. فلما كان التلازم من الجانبين جاز الاستدلال بثبوت كل منها على ثبوت الآخر، وبانتفائه على انتفائه، كالأبوة والبنوة لما تلازما جاز أن يستدل بثبوت كل منهما على ثبوت الآخر، وبانتفائه على انتفائه.

وكذلك إرادة الرب ومراده، فإنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فإرادته تستلزم المراد وتدل عليه، فوقوع الكائنات تستلزم إرادته وتدل عليها، ولهذا كان الاستثناء في الأيمان مانعا من الحنث، كما إذا قال: والله لا أفعل كذا إن شاء الله، فإن [ ص: 287 ] فعله علم وجود المشيئة، وإن [لم] يفعله علم انتفاؤها.

وكذلك كل حكم له سبب واحد، كالقتل العمد العدوان المحض، فإنه مستلزم لثبوت القود، وثبوت القود مستلزم له.

وكذلك القصر والسفر، فإن القصر ليس له سبب إلا السفر، فحيث كان سفر كان قصر، وحيث كان قصر كان سفر، إما سفر مقدر عند من يقول به، وإما مطلق السفر عند من لا يخص القصر بسفر مقدر.

التالي السابق


الخدمات العلمية