الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            [ ص: 294 ] مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " وفي صغار أولادها صغار أولاد هذه .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذا لما قال فيجب في فرخ النعامة فصيل ، وفي جحش حمار الوحشي عجل ، فيختلف الجزاء بحسب اختلافه في الصغر والكبر .

                                                                                                                                            وقال مالك : في الصغار والكبار جزاء واحد لا يختلف بصغره وكبره تعلقا بقوله تعالى : فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة ، فجعل الجزاء هديا ، ومطلق الهدي ما يجوز في الضحايا ، ألا تراه لو قال : لله علي أن أهدي هديا لم يجزه إلا ما يجز في الضحايا ولأن الصحابة حكمت في النعامة ببدنة ، وفي الضبع بكبش ، وفي الغزال بعنز ، ولم يسألوا عن صغر المقتول وكبره ، فلو كان الجزاء يختلف باختلاف الصغر والكبر لسألوا عن حاله ، ولافتقروا إلى شهادته ليفرقوا بين جزاء الصغير والكبير ، فلا أمسكوا عن السؤال ، ولم يفتقروا إلى المشاهدة على استواء الحكم في الصغير والكبير ، قالوا : ولأنه حيوان مخرج باسم التكفير فوجب ألا يختلف باختلاف حال ما أتلف من صغر وكبر كالرقبة في كفارة القتل لا تختلف باختلاف الصغير والكبير ، قالوا : ولأن الجزاء ليس يخلو من أن يكون جاريا مجرى الكفارات ، ومجرى الديات ، فإن جرى مجرى الكفارات لم يختلف باختلاف الصغير والكبير على ما بيناه ، وإن جرى مجرى الديات ، فالديات لا تختلف باختلاف الصغر والكبر ، على ما ذكرنا ، والدلالة على صحة ما ذهبنا إليه قوله تعالى : فجزاء مثل ما قتل من النعم ، فمثل الصغير صغير ، وليس الكبير مثلا للصغير ، ولأن الصيد قد يختلف في الصغر والكبر من وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : باختلاف أجناسه .

                                                                                                                                            والثاني : باختلاف أسبابه .

                                                                                                                                            فلما كان الصغير والكبير باختلاف أجناسه معتبرا حتى وجبوا في الضبع كبشا ، وفي الغزال عنزا ، وفي اليربوع جفرة اعتبارا بالمثل في الجفرة وإن كان كل ذلك صيدا _ وجب أن يكون الصغر والكبر باختلاف أسبابه معتبرا فلا يجب في الصغير ما يجب في الكبير اعتبارا بالمثل في الجفرة ، وإن كان جميع ذلك صيدا ، ولأن جزاء الصيد معتبر بضمان الأموال وحقوق الآدميين دون الكفارات ، وديات النفوس من وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنها تجب باليد وبالجناية ، والديات والكفارات لا تجب باليد وإنما تجب بالجناية .

                                                                                                                                            والثاني : أن جزاء الصيد إنما وجب لحرمة ثبتت له بغيره ؛ وهو الحرم أو الإحرام كسائر الأموال التي وجب ضمانها لحرمة المال والكفارات ، وديات النفوس إنما وجبت لحرمة النفوس دون غيرها ، وإذا كان ضمان الأموال معتبرا وجب أن يختلف بالصغر والكبر كسائر [ ص: 295 ] الأموال ، ألا ترى أن من أتلف على آدمي عجلا صغيرا لم يجب عليه ما يجب على من أتلف على آدمي ثورا كبيرا ؟

                                                                                                                                            وتحرير ذلك قياسا أن نقول : لأنه ضمان مختلف باختلاف الأجناس فوجب أن يختلف باختلاف الأسنان كسائر الأموال ، فأما الجواب عن استدلالهم بالآية ، أن الله تعالى جعل الجزاء هديا ، فللشافعي في الهدي إذا أطلق قولان :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه يتناول ما يطلق عليه الاسم ولو بيضة ، نص عليه في القديم ، فعلى هذا الاستدلال به ساقط .

                                                                                                                                            والثاني : يقتضي ما يجزئ في الأضاحي ، وبه قال في الجديد ، فعلى هذا إنما يقتضي ما يجوز في الأضاحي إذا كان لفظ الهدي مطلقا ، والهدي المذكور في الآية مقيد بالمثل ، فحمل على تقييده دون ما يقتضيه إطلاق لفظه .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن حكم الصحابة رضي الله عنهم من غير مسألة عن صغير أو كبير : فلأن مفهوم السؤال يغني عن الاستفهام : لأن السائل عن جزاء النعامة يفهم عنه أنه لم يرد فرخ النعامة ، وكذا في سائر الصيد : لذلك لم يحتج إلى المسألة .

                                                                                                                                            وأما قياسهم على الرقبة في الكفارات فالمعنى فيها أنها لا تجب باليد وإنما تجب بالجناية ، والجزاء باليد والجناية ، وأما قولهم : إنه لا يخلو أن يجري مجرى الكفارات أو مجرى الديات ، فالجواب أن يقال : قد يخلو من هذين : لأنه يجري مجرى أموال الآدميين ، على أنهم إن ردوه إلى الكفارات فقد ذكرنا الفرق بينهما ، وإن ردوه إلى الديات كان الفرق بينهما أن الديات لما لم تختلف باختلاف الأجناس والأنواع حتى كانت دية العربي كدية القبطي ، ودية الشريف كدية الدنيء ، ودية الأسود كدية الأبيض ، لم يختلف باختلاف الأسنان ، ولما كان الجزاء مختلفا باختلاف الأجناس ، اختلف باختلاف الأسنان ، والله أعلم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية