الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل :

                                                                                                                                            فإذا ثبت للسيد إقامة الحد على عبيده وإمائه ، فالكلام فيه مشتمل على ثلاثة فصول :

                                                                                                                                            أحدها : في السيد الذي يملك إقامة الحدود .

                                                                                                                                            والثاني : فيما يملكه السيد من إقامة الحدود .

                                                                                                                                            والثالث : فيما يجوز للسيد أن يقيم به الحدود .

                                                                                                                                            فأما الفصل الأول وهو السيد الذي يملك إقامة الحدود : فهو من استكملت فيه أربعة شروط :

                                                                                                                                            أحدها : جواز الأمر بالبلوغ والعقل والرشد : لأن من لم ينفذ مرة في حق نفسه ، فأولى أن ينفذ في حق غيره ، فإن كان صغيرا ، أو مجنونا ، أو سفيها لم يملك إقامة الحد ، فإن أقامه أحد هؤلاء كان تعديا منه على عبده ، ولم يسقط الحد بجلده ، وإن كان فاسقا .

                                                                                                                                            ففي جواز إقامته للحد على عبده وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : لا يجوز : لأنه يستحق بولاية تنتفي مع الفسق .

                                                                                                                                            [ ص: 247 ] والثاني : يجوز له إقامته : لأن فسقه لما لم يمنع من إنكاح عبده وأمته لم يمنعه من إقامة الحد عليهما .

                                                                                                                                            والشرط الثاني : أن يكون رجلا : لأن الرجال أحصن بالولايات من النساء . فإن كان امرأة ففيه ثلاثة أوجه :

                                                                                                                                            أحدها : أنه لا حق لها فيه ولا لوليها ، ويتولاه الإمام لقصورها عن ولايات الرجال .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : أنه يجوز أن يتولاه وليها نيابة عنها ، ولا يجوز أن تباشره بنفسها كالنكاح .

                                                                                                                                            والوجه الثالث : أنها تستحق مباشرة إقامته بنفسها وبمن تستنيبه فيه من ولي وغير ولي : لتفردها بالملك وحقوقه . وقد جلدت فاطمة عليها السلام أمة لها زنت ، وقطعت عائشة رضي الله عنها أمة لها سرقت .

                                                                                                                                            والشرط الثالث : أن يكون تام الملك في كامل الرق ، فإن كان السيد بعضه حر وبعضه مملوك فلا حق له في إقامة الحد : لنقصه بما فيه من الرق ، وكذلك لو كان مدبرا ، أو مخارجا ، أو معتقا نصفه لم يملك إقامة الحد على عبده بجريان أحكام الرق عليه . ولو كان مكاتبا ففي استحقاقه بحد عبده وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : يستحقه : لاستقرار ملكه عليه .

                                                                                                                                            والثاني : لا يستحقه : لنقصه بما يجري عليه من أحكام الرق . ولو كان السيد تام الملك بكمال الحرية ، إلا أن العبد غير تام الرق : لعتق بعضه ورق بعضه لم يستحق إقامة الحد عليه وجها واحدا : لما فيه من الحرية التي لا ولاية له عليها . ولو كان العبد بين شريكين لم يجز لأحدهما أن ينفرد بإقامة الحد عليه ، فإن اجتمعا على إقامته جاز .

                                                                                                                                            والشرط الرابع : أن يكون من أهل العلم بالحدود ، ومن المجتهدين فيه : ليعلم ما يجب فيه ولا يجب ، فإن كان متفقا على وجوبه عمل فيه على الاتفاق من الفقهاء ، وإن كان مختلفا فيه لم يخل رأيه ورأي الإمام من أربعة أحوال :

                                                                                                                                            أحدها : أن يتفقا على وجوبه ، فللسيد أن يتفرد باستيفائه .

                                                                                                                                            والثاني : أن يتفقا على إسقاطه فلا حد .

                                                                                                                                            والثالث : أن يرى الإمام وجوبه والسيد إسقاطه ، فللإمام أن يستوفيه دون السيد .

                                                                                                                                            والرابع : أن يرى السيد وجوبه دون الإمام ، فللسيد أن يستوفيه برأيه ما لم يحكم الإمام بإسقاطه . فإن حكم به منع منه السيد : لأن حكم الإمام أنفذ وأعم ، فإن لم يكن [ ص: 248 ] السيد من أهل العلم بالحدود منع من إقامتها : لأنه لا يعلم وجوبها حتى يرجع فيها إلى من يجوز له العمل بقوله ، فإن رجع إلى حاكم ، جاز أن يعمل على قوله فيما حكم به من وجوب إسقاطه ، ويقوم باستيفاء ما حكم الحاكم بوجوبه . وليس للإمام نقضه ، وإن رجع فيه إلى استيفاء ، وفيه نظر . فإن كان الحد متفقا على وجوبه ، كان للسيد أن يستوفيه بقول من أفتاه . وإن كان مختلفا فيه ففي جواز استيفاء السيد له بفتياه وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : لا يجوز : لأن المختلف فيه لا يتعين إلا بحكم حاكم .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : يجوز ، لأن تصرف السيد في عبده أقوى من تصرف الحاكم ، إلا أن يحكم الحاكم بسقوطه فيمنع .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية